سبحان من له الدوام الأبدي.. هو الذي خلق الموت والحياة.. يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير.. كل ما في الوجود تحقق بكلمته سبحانه: (كُنْ) فكان كل شيء له الحكم وإليه يُرجع الأمر كله.. لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه.. كل ما في لكون رهن مشيئته يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.. له ما أعطى، وله ما أخذ وما أبْقى.. كما أنشأ الإنسان من العدم فقد كتب عليه النّهاية من هذه الدنيا.. كل فرد له أجل مسمى وعمر محدّد لا يتقدم أجله ولا يتأخر عما هو مكتوب في سجل حياته. *** نؤمن بذلك إيمان يقين بحكم الدين الذي ندين به، ونؤمن به إيمان تجربة بمقتضى ما تجري به سنن الله في الوجود.. كما نؤمن به إيمان مشاهدة لما يجري في دنيانا: يولد مولود ويرحل موجود.. رحل آباؤنا من قبل ونحن على آثارهم راحلون. هم السابقون ونحن اللاحقون.. تتقدم آجال وتتأخر آجال وفق حكمة إلهية وتدبير حكيم عليم، يخلق ما يشاء ويختار وكل شيء عنده بمقدار.. كل مخلوق له عمر مسجل منذ أن كان جنيناً في بطن أمه: تسجيلاً محكماً يحدّد مدة بقائه ومدى عمره في هذه الدنيا بالثانية وأجزاء الثانية في زمان محدد ومكان معلوم. لا يستطيع أن يؤجل الزمان ولا أن يختار المكان.. تلك سنة الله في خلقه، كما هو طريق السابقين الأولين: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}سورة فاطر (43).. فعلينا الرضا بالقضاء، فنحن لا نملك لأنفسنا موتاً ولا حياةً ولا نشورا، وإنما تمضي بنا إرادة الله تبارك وتعالى حيث أراد..وعلى هذا المنوال تمضي أجيال يحلّ محلها أجيال. حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، فلكل بداية نهاية، ولكل مخلوق أجل، ولكل أجل كتاب. *** والموت ذلك الغائب الحاضر: غائب عن الذهن حاضر في الواقع، لكننا ننساه نسياناً تاماً حتى لا نكاد نذكره، ونغفل عنه كأن لم يكن له وجود في دنيانا التي نعيش في جنباتها والتي تشغلنا عن التفكير فيه، ولا نذكره إلاّ عندما نُفاجأ برحيل من نهتمّ به وله مكانة بيننا وأثر في حياتنا: حينئذ تنجلي الغفلة ونستعيد الذاكرة، فنستحضر في أذهاننا هذا الزائر الذي يحمل أرواحنا إلى عالم الغيب بعد أن كانت مستقرة في أجسامنا في عالم الشهادة، والتفكير في الانتقال من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية لا يدور في أذهاننا إلاّ حينما نشاهد ذلك عياناً في شخص نحبه ونألفه: هنا تستيقظ في نفوسنا حاسة الرؤية المصيرية فنرى الفاجعة تتجسم في نفوسنا، فكيف إذا كان الفقيد زعيماً كبيراً في وزن الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود خادم الحرمين الشريفين؟. إنه لاشك حدث ضخم هزّنا من الأعماق، وفجّر فينا إحساساً دفيناً جعلنا نلتفت حولنا كأننا لا نصدق ما حدث مع إيماننا بحدوثه: وماذا نملك سوى التسليم بالقدر المحتوم والمصير المنتظر، ولا يخالجنا أدنى ريب في تصور هذه الحقيقة التي نعايشها مع كثير من الأحداث والمواقف، وفي عديد من الحالات والوقائع: وعلينا أن ننتظر دورنا عندما يحين الرحيل فلكل مخلوق نهاية، ولكل عمر أجل: والموت حق لاشك فيه لكنه يغيب عن أذهاننا ويتلاشى مع مخيّلتنا حتى كأنه موضع شك في مقابل تصرفاتنا التي تنطوي على الاهتمام بالحاضر وتجاهل المستقبل، وحاضرنا يتجسد في دنيانا التي فيها حياتنا، ومستقبلنا يتمثل في آخرتنا التي إليها معادنا، ولا يعيدنا إلى الواقع سوى انتقال عزيز علينا له منزلة كبيرة في نفوسنا. وحين نُفجع بغياب رمز من رموزنا نضطرب أشدّ الاضطراب كأننا لا نتوقع هذا الغياب لفرْد كان يملأ حياتنا، وأنه لا بد له من مصير ينتهي إليه لا محالة، ولكنها آمال تطول، وآجال تنتهي، وكأننا لا نرى أنّ آجالنا محدودة بعكس آمالنا التي ليست لها حدود، وأصعب ما يواجه الكاتب في مثل هذا الموقف أنه لا يستطيع السيطرة على أفكاره عندما يحاول الكتابة عن المصاب الجلل الذي هزّ أعماقه وشغل فكره. *** ما تقدم تمهيد لابدّ منه للدخول إلى عالم الفقيد الكبير: لقد كان لي شرف العمل بمعيته -في وقت مبكر من حياتي- امتدت مدة طويلة هي تقريباً كل حياتي الوظيفية في الدولة، عملت بمعيته وهو وزير للمعارف، وعندما أصبح وزيراً للداخلية، ثم عملت تحت توجيهه المباشر وهو ملك ورئيس مجلس الوزراء، ورافقته في كثير من رحلاته خارج البلاد، فازددت مع مرور الأيام قرباً منه وصلة به وإخلاصاً له، ونلت من جانبه- رحمه الله- الثقة التي أعتز بها والتقدير الذي ألمسه منه في مناسبات كثيرة ومواقف عديدة. وطيلة فترة عملي المديدة تحت توجيهه المباشر عَبْر المدة التي بدأت رسمياً منذ عام 1373ه وحتى آخر حياته: لم يجرح إحساسي بكلمة، ولا أحرجني في موقف، وما اهتزت ثقته بي في يوم من الأيام، حتى لو كان له توجيه مخالف لما اجتهدتُ فيه، ذلك أنه يتمتع بأخلاق عالية متميزة إلى جانب أنه يثق بمَنْ عرف عنهم الإخلاص في الولاء والصدق في التعامل.. ,هو لا يمنح ثقته بسهولة، وإنما يمنحها بعد تجربة طويلة ومعايشة مع مَنْ يستحق الثقة، فإذا منحها لفرد: اطمأن إلى عمل هذا المؤهل للثقة ولو حصل منها خطأ حمله على الاجتهاد، لذلك فإنه يتجافىَ عن هذا الخطأ، لأن الإنسان يخطئ ويصيب، ومن هذه الزاوية فإنه يقدّر المجتهد المخطئ، ويصفح عنه على قاعدة: الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، والتعامل مع هذا الرجل الكبير ليس صعباً، فهو يقدر العاملين معه بحسب إخلاصهم المطلوب وتفانيهم في أعمالهم وصدقهم في أداء واجباتهم، ومع هذه الرؤية فإنه أنيس المعشر حاضر البديهة لطيف الروح يستخدم الكلمة المعبّرة عن مشاعره في مجالها المناسب، كما أنه متواضع مع جلال هيبته، فلا تحول هيبة الملك لديه أن ترى فيه صورة الإنسان الذي ترتسم على قسمات وجهه إضاءات مشرقة تنعكس على صفاء روحه لما يتمتع به من أخلاق سامية وحلم واسع بحيث يتحمل خطأ من يخطئ فلا يعاقب على الغلطة الأولى، وإن كان ينبّه على الثانية ولكنه يحاسب على الثالثة، والذي لا يستفيد من تجاوزه عنه في خطأين غير مؤهّل للتجاوز عن خطئه الثالث لأنه لم يستفد من تكرار أخطائه، ويكون بذلك قد تخطّى المسافة الفاصلة بين الصحيح والخطأ. *** وهو ملك مهيب لكنه دائماً باسم الوجه غير متجهم يستمع إلى النكتة اللطيفة والدعابة الظريفة، ويشارك في الحديث من جميع وجوهه.. ومن خصوصياته التي يتمتع بها خاصية الحسّ الجمالي والذوق الرفيع، فلديه نظرة متميزة تنطلق من التوفيق بين الأشياء ومراعاة التجانس بين الألوان، وتحديد الظلال والأضواء يؤكد ذلك: طابع المقر الذي يستقبل فيه أو المكان الذي يسكنه: حيث تتناسق الألوان وتلتقي الأذواق، والناظر إلى مجالسه وأماكن عمله يسترعي انتباهه روعة التصميم وجمال التنسيق، والدقة في وضع كل شيء في موضعه بحيث لا يكون هناك نشاز بين شكل وآخر، ولا بين لون ولون، فهو- رحمه الله- بحسه الخاص لا يترك لمهندس الديكور التصرف في وضع ما يريد كما يشاء، وإنما يجري كل ذلك تحت إشرافه المباشر وتوجيهه الشخصي، ولذلك نلمس روعة المظاهر الجمالية في القصور الملكية. *** وكما أن له نظرته إلى الأوضاع الخاصة، فإن له كذلك رؤيته نحو المواقف العامة، فقد استطاع أن يفرض مكانته بين الزعماء الكبار الذين يشكلون معالم الزعامة في العصر الحديث، فعندما واجه التحديات المعاصرة أثبتت أصالة رأيه ومكانة بلده في ساحات المواجهات السياسية والمعارك الحربية، فكان شامخاً في كل مهمة، وعلى مستوى كل حدث، لذلك فإنه يُعدُّ بحق من القادة الذين أضافوا لأمجاد أمتهم مواقف مشرّفة في أحلك الظروف وأحرج الأحداث، فكان ممن حوّلوا مجرى الحوادث لصالح شعبهم بالحكمة وبُعْد النظر واستلهام الحقائق والإفادة من وقائع التاريخ في الماضي والحاضر، فكانت له مواقف مرموقة في المحافل الدولية وبروز ملموس في الملمات الطارئة. *** وكان الشاغل الذي يلح على ذهنه تطوير البلاد: فعمل على دعم التنمية الوطنية وتوسيع نطاق الإعمار في سائر أنحاء المملكة، والعمل على امتداد النهضة الحديثة في جميع مجالاتها: التعليمية والعمرانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهذه البلاد ترى في زعيمها الذي فقدته صورة الزعيم الكبير، ويشاركها هذه الرؤية العالم العربي والإسلامي إلى جانب الرأي العام العالمي، وذلك لما تحفل به حياته من إنجازات كبيرة وإصلاحات مهمة، فقد اتسمت جهوده بإشادة البناء ومتابعة التنفيذ وتحقيق تطورات كبيرة في ساحة وطننا الكبير على امتداد المملكة واتساع مساحتها، والذين يرحلون عن هذه الدنيا كثيرون لكن القلّة منهم هم الذين يسجلون بصماتهم متمثلة في آثارهم بَعدهم، ويتركون خلفهم أصداء ناطقة بآثار أعمالهم، وهم أفراد في كل أمة وآحاد في كل شعب تمثلت فيهم خصائص الزعامة الصحيحة والعزيمة الصادقة، فقادوا أممهم نحو العزة والسؤدد، وساروا بأوطانهم إلى السعادة والرخاء، وحين يتحدث التاريخ عن الملك فهد بن عبدالعزيز ستبرز مآثره الكثيرة، وتبدو بصماته الواضحة وتتجلّى أصداء أعماله الواسعة. *** وحياة الملك فهد حافلة بالإنجازات المهمة والإصلاحات الملموسة، وهي حياة اتسمت بالبناء والعطاء، والحديث عن حياة من هذا النوع الفاعل لا تتسع لها صفحات كثيرة لتحديد ملامحها فضلاً عن تفصيل الحديث عنها، فذلك يحتاج إلى كتاب حيث لا يستوعبه مقال مهما طال، لكن الوفاء يفرض التحدث عن بعض الملامح والسمات للمنجزات الضخمة، وأهمها توسعة الحرمين الشريفين توسعة رائعة، وإعادة إعمارهما على مستوى لم يكن مشهوداً من قبل، وإلى جانب ما تم من الحرمين الشريفين من إشادة وتوسعة فقد امتد هذا الإعمار إلى بلاد الحرمين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، كما شمل سائر المشاعر المقدسة: مما يمثل صفحات مشرفة تتواصل عبر الأجيال، وهي أمجاد باقية على مر الزمان تُذكر مع اسم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الذي يُعدُّ اختياره لهذا اللقب من مزاياه، وهو اسم على مسمى، فقد قام على خدمة الحرمين بكل ما وسعه من طاقة، وما أفاض الله على يديه من ثروة، وما يحمله في قلبه من إيمان، كما أمر بإنشاء مطابع المصحف الشريف في المدينةالمنورة خدمة للقرآن الكريم وترجمة معانيه وتوزيعه بالألوف والملايين على نطاق العالم كله، ولم تقف جهوده عند هذا الحد فقد خدم الإسلام وتبنَّى قضايا المسلمين مما أهّله بجدارة لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام التي تُعَدُّ بمثابة تكريم لأعمال مجيدة لا يتأهّل لها إلاّ من يستحق التقدير والتكريم. وبتوجيهه وتحت إشرافه صدرت الأنظمة الأربعة المهمة: النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الوزراء ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق، وفي عهده جرى تطوير مجلس الشورى وتوسيع نطاقه.. وهذه الأنظمة التي تعتبر امتداداً للتعليمات والأنظمة التي سنها الملك عبدالعزيز تغمده الله برحمته منذ مستهل عهده جرى تحديثها واتسعت أبعادها لتحقق رسالتها مع تطورات العصر ومستجداته، وهي بهذا المقياس تعتبر نقلة تطويرية مهمة في حياة هذه البلاد.. والملك فهد- رحمه الله- لا يعمل في الميدان وحده، وإذا كان هو ربّان السفينة الماهر الذي يقودها إلى مرفأ الأمان، فإن ساعديه ومساعديه في دفة الحكم- ورسم السياسة الحكيمة التي تسير عليها البلاد- هما أخواه الكريمان الملك عبدالله وسمو الأمير سلطان- حفظهما الله-، فقد كانا مستشاريه المقربين لديه، والمنفذين لتوجيهاته السديدة، ونحن في أمة ليست عقيمة الإنجاب فهي ذات عطاء سخي بزعمائها، فإذا أخلى زعيم من زعمائنا مكانه حل محله زعيم آخر يملأ المكان، ويكمل الرسالة ويحقق الهدف، وقد ساد هذا المنهج ابتداء من المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز مروراً بأبنائه الذين تولوا الحكم من بعده وساروا على نهجه وآخرهم الملك فهد الذي ودّعناه. *** والآن يرفع الراية بعده قائد غير مجهول فله أدواره البارزة في حاضر أمته التي عرفته رفيق درب وشريك الحكم ومؤصل منهج، ونحن إذ نسأل الله تعالى الرحمة للعاهل الراحل، نبتهل إلى الله كذلك أن يبارك في عاهلنا الحاضر، وأن يمنحه العمر المديد والتوفيق الدائم ليسعد الشعب بقيادته لمسيرة هذه البلاد التي تعلق على مبادراته الكثير من الآمال، وتنتظر الكثير من الإنجازات في عهده السعيد إن شاء الله تعالى.