ثلاثة كتب وصلتني من الأستاذ الأديب إبراهيم التركي أولها: (سفر في منفى الشمس) الصادر على نفقة المؤلف الطبعة الأولى - الرياض 1416ه - 1996م. شاقني المؤلف وأحسست فيه عنواناً شاعرياً يجعلك تتصور كيف يكون منفى الشمس ذلك وكيف يكون السفر إليه.. ويدخلك في تأثيرات نفسية إذ كيف يكون للشمس منفى وهي التي تشع النور والحرية لتفتح السرائر وتبين ما احتجب في ظلمات البر والفضاء.. وأوجعني أن يكون للشمس (منفى) لعله الرمز إلى الحرية الفكرية المقيدة أو لعلها العيون العشياء التي لا ترى الفكر النابض يألق بألق الشمس ولا ترى سوى سواد وكهوف مظلمة تجسد المنافي التي يعيشها الفكر المبدع.. وتلك إحدى خصوصيات الفكر العربي الذي تستقبله المنافي فيضيء فيها العمر وهو بين عماء وجفاء وريبة وشك لا تلبث أن تتحول إلى أجداث يدفن فيها الفكر الخلاق وهو حي فكأنه يشير إلى الوأد الذي قتل العقول قبل ميعاد آجالها.. ثم دلفت أفتح صفحات هذا الكتاب صفحة بعد أخرى أقرأ قراءة الظمآن إلى كلمة أو فكرة أستظل بها من هجير الوقت وزحمة الحروف التي احتقبت خلايا اذهاننا منها المفيد ومنها الساذج الذي لا ترى فيه سوى جلدتي كتاب ما فيه الا الاسم والعنوان كأنه السراب يحسبه الظمآن ماء. وإذا بي أجد متعة تجرني إلى أخرى من خلال مواضيع شيقة ولغة مطواعة تتقطر من مزون الشعر والأدب في أسلوب (السهل الممتنع) أشعرني كم أن للفكر النابه والعقل الواعي والإبداع المتجدد منافي لا تعرف الرحمة، ولا تدرك قيمة الارتقاء والتفوق ذلك ما وجدته في هذا الكتاب الذي يتفجر من بين أصابع مؤلفه حبراً زلالاً فيحيله حروفاً ومعاني مكتوبة بحروف الشمس وهو في سفر معها إلى المنفى الذي يرفض ويزدري ويغفل عن شمس الحروف والمعاني التي تضيء مجاهل السواد الأعظم في الحياة.. قلت لعله مثلي تواضع حتى حسبه الجاهلون مجرد أداة في جريدة، أو قلماً كسرت ريشته أو حبراً جف معينه أو ورقاً اصفر من أشعة الشمس وهكذا نحن نعيش في غربة العقول حتى تتقادم بنا السنون ويحتضننا الموت - وتدرسنا الأيام ثم نعود في عيون الأجيال النابضة بحيوية الحياة تقرأنا ثم تقول: (ويل للمعاصرين من المعاصرين) كما قال زكي نجيب محمود. دخلت عوالم هذا المؤلف الجدير بالقراءة والاستمتاع والاستفادة فكان دخولي عبر هذه الكلمات التي صدق منشؤها وهو يقول: لم تعد القضية تقليداً أو تجديداً وتجاوزت الحكاية بوابتي التراث والمعاصرة خفتت الأصوات زمناً وعلت وتثاءب المتحاورون واستيقظوا وانتظرنا (كلمة سواء) فبدت كلمة (صماء) وسودت الملاحق الثقافية العربية بتهم ولا ضياء تلمعت أسماء وانطفأت أسماء وبقي للتاريخ رأيه الحازم في تلك السماء والأهواء ما هو الشعر والشعراء؟ فعرفت أن المؤلف له لغة شاعر وان لم يشأ وفهمت أنه بعد امتلائه بالتراث العربي والتراث الغربي يعيش في منفى الشمس فأخذ عهداً على أن يشعل الحروف والمعاني بسخرية الناظر من منفاه الشمسي إلى الأرض ينظر في التيه وفي الأنوات التي تحتقب عقولها أدواء الجهل ولكنها تفرض أن يشار إليها بالبنان ولا ترى لجهلها جهلاً يتفوق عليها فانكرت ترانيم البلابل وعطور الورود والأزهار فتنعمت ما شاء لها العمر بالأشواك فكانت ترى نعيمها الوهم. وأنا ما زلت في سفري إلى منفى شمس إبراهيم التركي أراه تارة مع الفيلسوف الألماني شوبنهاور وأخرى مع (يوجين يونسكو) ومرة مع توفيق الحكيم ومرة مع المتنبي ومرة مع ادونيس وغيره من اساطين القول والبيان كأنهم معه في منفاه الشمسي كما قال المتنبي: من مبلغ الأعراب أني بعدهم جالست رسطاليس والإسكندرا وعرفت أن المؤلف يمتاح من التراث العربي والعالمي قدر ما يستطيع ونظرت إلى مقالات أدبية تتعمق في المتون وتضرب على أوتار قلما يستطيع أن يضرب عليها إلا من كان موهوباً لا مكتوباً ضمن قطيع العطايا والهبات البشرية لتأخذ حظاً مكتسباً لا فطرياً.. وكأنني أراه لا يترك شاردة ولا واردة إلا وقد سبر أغوارها واسند إليها صحتها.. ثم علق عليها برؤية جريئة صريحة متفتحة نحو عالم الغد، فيرسم مثل أقرانه من حملة أمانة الأدب خطوطاً تضيء مستقبل التعمية العربي، ويرمز ويوخز بشوكه خلايا العقول لكي تترشد الحياة وتعي معانيها وتعرف مسؤولية الخلق في الحياة والحياة في الخلق.. ولن أذكر المواضيع التي خطها المؤلف لأكون صورة لما تدبجه أقلام المقلدين فاذكر عن عناوين مقالاته الأدبية ابتداءً من مقالة (صوت في مرحلة الوجع) إلى (عابرون على ضوء نجمة) وانما أنا أسجل انطباعاً عاماً لما احتواه هذا المؤلف القدير والجدير بالقراءة فجميعه يفيد المريد ويقعد بالمرصاد لكل مدع عنيد.. عندما يقرأه يجده كالنجم الثاقب في زمن اختلط فيه (الحابل بالنابل) وساد في عصر الهزائم فساد الرؤى ورخصت الأقلام وملأت الأوراق والصحف بما اسقم الفؤاد وغوى العباد فلم نعد نستبين الغي من الرشاد. ومن سفري معه إلى منفاه الشمسي دخلت إلى مؤلفه المعنون ب(كان اسمه الغد) الصادر عن المؤلف عام 1424ه بهذا البيت من أبيات معدودات لم يشر إلى قائلها: عش إن تشأ فالعز لا ينحني لمن أذلته كسور الحساب فقلت أنا على منواله: كن شامخاً فالمجد لا ينحني لمن خادعته كنوز السراب وفي هذا المؤلف كأنه يتأوه على الغد فجاء به في صيغة الماضي (كان) ولا ندري ما اسم الغد في المستقبل العربي المعاصر وقد جاء هذا المؤلف إرهاصات لما ألفه أرباب البيان مع تعليقات أدبية للمؤلف قارب فيها الخطو إلى نظرته في الطروحات الفكرية - والرواية وفلسفته وكعادته أدبياً ساخراً يسلط وخزات أشواكه ليصحوا من كان في سبات عميق في عالمنا العربي.. وكأنه قد مل من النوَّام الذين تركوا لهيمنة العصر ازدراء القيم والقدرات العربية بعد أن كان لها السمو والعلا من خلال ميراث فكري وأدبي وعلمي لا زال الرغب يعكف على دراسته ويتعمق في متونه ونحن كما قلت من شعري: ونحن غرقى سبات طال أو ضجر فئنا إليه إلى أن ملنا الضجر فتراه كالمتحسر على ماضي الأفذاذ المرشد إلى أفكار الأضداد.. المتسلق على أعمدة الضوء ليعكسه على قومه وأمته التي ركنت إلى السكون والدعة والاستسلام والمذلة والمهانة وأصبحت تبيع أمجادها (بثمن بخس دراهم معدودات) (فلله دره) في أسلوب أخاذ يأخذك معه في صحوة المتعة الحقيقية إلى مكامن المجهول فيستجمع تراث العرب والغرب ليجعل للنضج الفكري خلقاً جديداً ينبض بميلاد عصر لا يقبل الجهل ولا يرضى بغير العلم للولوج إلى عوالمه استنطق فيه المؤلف مفكري العالم في إيجازات مختصرة لها مفعول الأكسجين للحياة. فلم يغادر من القدماء والمحدثين صغيراً أو كبيراً إلا وقد أحصاه ذكراً بنصوص استقاها من مؤلفاتهم فجعل كتابه أشبه بموسوعة مختصرة للأقوال والأسماء التراثية.. يطبقها على موضوعه الذي ابتغاه فكان بحق رحيقاً عطرياً لمن أراد أن يقرأ ولو بطرف الطرف للإفادة والاستزادة فهو جهد غير قليل وربما يجهد به غيره فلا يتيسر له هذا المحتوى وهذا الجمع إضافة إلى قدرة التحليق في العناوين ومزج الفكر بالروح.. فتجد القصد يرمز للمعنى وهذا لن يتأتى لمن لم يقرأ المتون ولم يعكف على قراءة آداب الأمم إنه بحق جهد متميز يؤكد أن أمتنا العربية ما زالت سراجاً وهاجاً بعقول أبنائها المخلصين الصادقين المتفتحين على الرؤى المستقبلية هذا إلى جانب ذكاء الطرح ودقة العرض فالسطور تتحمل التأويل لأهداف جادة لا يسبر أغوارها إلا من أوتي حظا من الفراسة والموهبة فالمؤلف يتمتع بقدرة على تلوين الكلمات ومزجها واستخلاص مواد ظاهرها انسياب وباطنها أمور عجاب كلها تنشد الرقي الإنساني والسعي إلى خيرية الحياة والخلق. ثم إذا بنا ونحن نقفل راجعين من منفى شمس الأستاذ إبراهيم التركي وما (كان اسمه الغد) إذا بنا نفاجأ بعنوان مؤلفه الثالث (ما لم يقله الحاوي).. وأي حاو هو ذلك الذي قال ما لم يقله الحاوي وهو إضافات مترعة بذكاء الحاوي الذي يفك السلاسل ويخرج النار من فمه بألاعيب بهلوانية ولكنها تعتمد على القوة والفهلوة والذكاء فكأنه يثير بذلك مكامن الانغلاق والانعزال الفكري بلغة الفهلوة ولكنه في هذا الكتاب يعالج مواضيع تتباين في مضمونها بين الأدب والفلسفة وبعض اللمحات الإدارية إضافة إلى لغة الشعر وإلى قراءة الدواخل النفسية وقراءة العصر ومستجداته وأحداثه لكنه يبدو فيها أكثر مرارة على الواقع البيئي والاجتماعي والأدبي.. والخلاصة إن هذه الكتب الثلاثة تعبر عن مشوار فكري شاق تعنى له الأستاذ إبراهيم التركي فكان مشعلاً من مشاعل التنوير العربي قضينا في قراءته أياماً وأياماً استمتعنا واستفدنا وعرفنا أن أمتنا لن ينضب معينها الفكري الثري حتى قيام الساعة طالما أن هناك غروساً آدمية تنمو لتستوي على سوقها لتؤتي أكلها ثمراً فكرياً ناضجاً وهي ترتفع ولا تتدانى لتمتد إليها أيدي القطاف ويلذ بثمرها الإنسان والأوطان وتكثر الرياض المورقة بأفنان الكلم يعطر نواحينا ويخصب جدب الأعمار وتندى الأقمار قطرات من سنا الأنوار ينهل منها الفكر الإنساني الخلاق ليروي العطاش ويثير الحرث والنسل للارتقاء لا للسقوط، وللعزيمة لا للكسل والتواكل، ولاستئناس الخير والعمل به وما دور العالم والمفكر والأديب والشاعر والفيلسوف الا استقصاء الحكمة التي تسعى إلى ترسيخ قيم النبالة ومحو معاني الشر من قواميس الحياة ليسود الحب الذي يدعو إلى الإيثار ونبذ الضغائن والاعتراف بحق الإنسان على الإنسان تلك هي الغاية وإلا فما قيمة الفكر.