تنتشر الدور النسائية لتحفيظ القرآن الكريم في جميع مناطق المملكة، ويدرس بها عشرات الآلاف من الطالبات، وتخرج المئات من حافظات كتاب الله العزيز كل عام.. وهو الأمر الذي يؤهلها للقيام بدور فاعل في الدعوة إلى الله، والإسهام في خدمة المجتمع، فما هي الآفاق التي يمكن من خلالها لدور التحفيظ النسائية تحقيق هذا الهدف؟ وما هي الوسائل المتاحة والمطلوبة للقيام بهذا الدور؟ طرحنا هذه التساؤلات على عدد من التربويات والعاملات في الحقل الدعوي، ومسؤولات بدور التحفيظ النسائية.. فكان هذا التحقيق.. ** في البداية تقول د. فاطمة بنت عبد الرحمن رمضان رئيسة الفرع النسائي للجمعية الخيرية للتحفيظ وعميدة معهد الدراسات القرآنية للبنات بمكةالمكرمة: لقد واكبت - بفضل الله ومنِّه - خدمة القرآن الكريم لفتيات مكةالمكرمة من خلال الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم منذ عام 1398ه، عندما كانت تحت إشراف جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الموقرة، ثم منَّ الله على وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد فانتقل إليها شرف خدمة كتابه الكريم ورعاية أهله. وفي هذا العام المذكور لم تكن بعدُ قد أُسست إدارة للقسم النسوي للجمعية، بل كانت عبارة عن حلقات لا تتجاوز الست أو السبع تُعقد في جزء من المسجد الحرام، ثم انتقلت إلى أماكن متواضعة جداً في بعض الأحياء المكية، حتى قامت إدارة القسم النسوي للجمعية عام 1406ه، وأخذ الركب طريقه للتطور والنماء. وبالنظرة المتأملة لتلك الآونة وما نحن عليه حالياً نلاحظ الفضل الذي لا يكافأ إلا بالتواصي على تقييد هذه النعم بالشكر لله تعالى، وسؤاله جل شأنه الدوام مع المزيد مما نحن عليه من نعم، حيث أصبح اليوم عدد الدور النسائية للتحفيظ في مكةالمكرمة (203) مدارس، بالإضافة إلى المراكز الصباحية لعقد الدورات القرآنية مختلفة الفروع، ودورات في علم التجويد، ومراكز التربية القرآنية للنشء دون سن المدرسة ونحو ذلك. مئات الحافظات وتضيف رئيس الفرع النسائي للجمعية الخيرية للتحفيظ بمكة: ومن خلال تجربتي فإن هذه المدارس تخرج سنوياً مئات الحافظات، إلا أن بعض هؤلاء الحافظات كأنه قد غاب عنهن ما ينبغي أن يترتب على حفظ القرآن من سلوك، وما يجب أن يكنَّ عليه من تمشٍّ بهدي ما يحفظن، فنفاجأ بتورط عدد أقل من القليل منهن في سلوكيات غير لائقة لا يمكن تصور وقوعها من حافظة القرآن الكريم كله أو بعضه، وإذا كان هذا العدد القليل من الحافظات قد يتورطن في سلوكيات غير لائقة، فهناك عدد آخر قد يقع في الانزلاق في سلوكيات غير راشدة، رغم أنهن من بيئات دين والتزام، وفي ذلك دليل على عدم الإدراك السليم والفهم القويم لآي الذكر الحكيم فهماً وتفسيراً صحيحاً. ولنا أن نتساءل: ما دور هذه الدور النسائية لتحفيظ القرآن الكريم في مجال تصحيح مسار هؤلاء وغيرهن، وتصويب الاتجاه والتوجيه إلى ما ينبغي الرجوع إليه للفهم السليم لآي الذكر الحكيم؟ ومن هنا تواردت أفكار عقد دورات لتخريج داعيات يتلقين على أهل العلم ممن يُوثق بعلمهم واتجاهاتهم السوية، فيقمن بالدعوة إلى الله وتصويب المسار وتصحيح الاتجاه في إطار جدول منظم لهن؛ حيث يقمن بزيارات لهذه الدور النسائية للتحفيظ، وإلقاء المحاضرات تحت إشراف إداري لمعهد الدراسات القرآنية للبنات بمكةالمكرمة، الذي منح الإذن بقيام دورات إعداد الداعيات من معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد حفظه الله، وقد تخرجت دفعتان بفضل الله من هذه الدورات وتقوم بعملها الإيجابي في إرشاد الشابات داخل دور التحفيظ، فهذه وسيلة من وسائل تحقيق خدمة المجتمع من خلال هذه الدور النسائية للتحفيظ، ولكي يتم بالفعل تحقيق الهدف نحن بحاجة إلى تدريس هذه الدورات لمن يُوثق بعلمهن وتقواهن وغيرتهن على دينهن ووطنهن، امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. وعندما يتحقق هذا نجد أنفسنا أمام فريق من الفضليات العاملات في حقلي التدريس والدعوة إلى الله على بصيرة إن شاء الله، فيكون الاتجاه إلى تبيين المعاني الصحيحة لكل من آي الذكر الحكيم والسنة النبوية المطهرة في ضوء الوسطية التي يتسم بها هذا الدين الحنيف، فلا يخفى على أحد أن هؤلاء الطالبات الصغيرات هن أمهات المستقبل المؤثرات في الرجال من خلال التربية والتنشئة، وهذا ما تقوم به مراكز التربية القرآنية للنشء الصالح، سواء التابعة للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم أو معهد الدراسات القرآنية للبنات بمكةالمكرمة. تصحيح الأفكار أما د. امباركة أبو جبل وكيلة كلية التربية للأقسام الأدبية بالأحساء فتقول: إن آفاق تفعيل إسهام الدور النسائية لتحفيظ القرآن الكريم في مجال الدعوة إلى الله وخدمة المجتمع يمكن أن يكون بتوفيق الله بعدد من الوسائل، منها: أولاً: التذكير دائماً بأن هذا العمل خير الأعمال عند الله عز وجل، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)، والتواصي بذلك واستمرارية الحث عليه بألوان متنوعة ومتعددة من الترغيب (مادياً ومعنوياً)، ومن أمثلة ذلك: إجراء المسابقات بين الدارسات في مجال الحفظ والثقافة العلمية المتعلقة بالقرآن الكريم والإكثار منها، والحرص على شهود الأمهات لها دافعاً وحثاً لبناتهن الدارسات على التفوق، وكذلك الحرص على تكريم المسؤولين للمتفوقات بصفة شخصية لما لذلك من دلالة ومعنى كبير لدى الدارسات وأسرهن والمجتمع، والعمل على توفير مكافأة دورية (ولتكن شهرية) للمتفوقات مكافأة مجزية حثاً لهن ولغيرهن على التفوق، على أن يكون لهؤلاء المتفوقات الأولوية في الالتحاق بدور العلم المختلفة، لا سيما في الدراسات الإسلامية، ومواصلة متابعتها وبلوغها أعلى الدرجات العلمية لتتبوأ مكانتها اللائقة في العلم، وتسد فراغاً وحاجةً للأجيال بعد ذلك، لا سيما في هذا العصر المتعطش لرؤية المرأة المسلمة حقاً الفاهمة لدينها العالمة بكتاب ربها عز وجل، كذلك العمل على أن يكون لهؤلاء المتفوقات أولوية شغل الوظائف النسائية في هذا المجال، لا سيما التعليمية منها، مع تحقيق رغبتها في مكان عملها، وحث الدارسات على التذكرة والنصيحة في بيتها والتعريف بالفهم الصحيح للإسلام الذي يرفض الغلو في الفهم وفي السلوك (إفراطاً وتفريطاً)، مما يصحح أفكار الانحراف والتطرف والإرهاب، والإعلان عن هذه الدور ودورها في المجتمع، وإظهار صوتها للناس بأي وسيلة ممكنة لذلك، لكي تجعل الناس تلتفت إليها وتهتم بها وتقبل عليها بأي لون من ألوان الخير والفائدة، وتعميم النفع العام للأفراد والمجتمع. ثانياً: التركيز على الأنشطة الدعوية في مجالات عديدة، ومن أهم هذه المجالات مجال الأسرة وإعداد الزوجة والأم الصالحة التي هي نواة الأسرة وركيزتها الأولى، والتي بصلاحها يصلح المجتمع، ويرحم الله حافظ إبراهيم حين قال: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق وتوضيح ما يُثار في الفضائيات وغيرها عن المرأة، وذلك ببيان الأثر السلبي للأخطاء التي تذاع في ذلك وتصحيحها، والتذكير بنماذج الصالحات السابقات في الإسلام اللاتي صرن أعلاماً في العلم والحكمة، وإقامة محاضرات دعوية علمية ثقافية متنوعة من خارج الدار من إخوة وأخوات بصفة دورية تحضرها أسر الدارسات. ثالثاً: العمل على الاهتمام بمراعاة حال الدارسات نفسياً واجتماعياً، وبذل ما يمكن بذله في سبيل تحقيق حاجاتهن وتفرغهن للدراسة والعلم، ويمتد هذا لأسرهن مما ينعكس إيجاباً على الأفراد والمجتمع. توعية الناشئة من جانبها تقول الأستاذة نائلة بنت محمد السلفي مديرة مكتب الدعوة القسم النسائي بالنسيم بالرياض: إن لدور التحفيظ أثراً كبيراً في الدعوة إلى الله، التي هي أصل الإصلاح للفرد والمجتمع، وتحقق هدفاً مباشراً وهو نشر الإسلام بقواعده الصحيحة، متمسكين بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.وهذه الدور بهذا تجمع بين خيرين؛ حفظ القرآن، والدعوة إلى الله، مع التثقيف الاجتماعي للأسرة التي هي نواة المجتمع، وتوطين الصحة النفسية في المسلم بحفظ القرآن الكريم. وأهم وسائل تحقيق هذا الهدف ما يلي: الدروس الأسبوعية لكافة الناس، واستغلال مواسم الخير كرمضان والحج والأعياد والصيف بإقامة الملتقيات الدعوية والدورات القصيرة المدى لفئة الاحتياج؛ مثل دورة لطالبات العلم في تخصص معين، أو دورة لتوعية الناشئة بمتغيرات العصر، أو الاهتمام بالطفل وغرس السيرة في نفوسهم، كذلك المسابقات الثقافية الدعوية الخاصة والعامة. ومن الوسائل الفاعلة أيضاً الأيام المفتوحة التي تعطي مساحة للزائرات لعرض اقتراحاتهم وآرائهم بما يناسب العناية بحفظ كتاب الله، وتقديم دروس للجاليات الأجنبية الموجودة في المملكة في الملتقيات الموسمية، والمشاركة في المعارض الدعوية التي تهتم بقضايا الأمة. كذلك فإن المطويات والمجلات التي تصدر عن دور التحفيظ النسائية تدعم قدرتها في مجال العمل الدعوي، والكثير الكثير من الوسائل، فالدعوة لها مداخل كثيرة، خاصة إذا وجدنا المهتمين والمتطوعين والاجتماعيين المخلصين في التوعية مع الجدية التامة في الإنجاز. وتضيف نائلة السلفي: إن للدعوة أموراً يلزم معرفتها لتحقيق طموحاتنا، ومن هذه الأمور المعلِّم المتميز في الحوار والمقنع، ومراعاة حال الفئة المستفيدة من الناس، وهم مستقبلو المعلومات الذين يتأثرون بالعلم المقدَّم لهم، وتوعية الخطاب الدعوي، كذلك المعرفة بمنهج الإسلام الصحيح الثابت في الكتاب والسنة، فهو المنهج الذي استوعب ويستوعب كل الحضارات إلى قيام الساعة. الوسائل المعينة وتقول الأستاذة سميرة بنت أحمد العبيد المشرفة الثقافية للندوة العالمية للشباب الإسلامي غرب الرياض: طريق الدعوة صعب مليء بالعثرات، وتسهيل هذه العثرات وتذليل عقباتها هو طريقنا لنجني معاً الثمرة بإذن الله تعالى. والحديث عن تفعيل إسهامات دور التحفيظ في مجال الدعوة إلى الله لا بدَّ أن يبدأ باصطحاب الإخلاص لله تعالى، واحتساب كل حرف وكلمة وكل حركة وسكنة عند الله تعالى، فتعلم المعلمة أنها على ثغرة من ثغور الإسلام، فلا تترك للشيطان طريقاً ليثبط همتها ويثني عزمها عن الإقدام، وتحفيظ القرآن الكريم في ذاته يدعم قدرة الطالبات على السير في طريق الدعوة إلى الله بفاعلية، ويتحقق ذلك داخل الدور بعدة وسائل، منها: أولاً: الإعداد الجيد للنِّصاب اليومي المحدد من حيث تحديد هدف مهاري كاستخراج حكم من أحكام التجويد من النصاب المحدد، كذلك تحديد هدف وجداني يرسخ في الدراسة، مع الحرص على الاستشهاد بالأحاديث النبوية وربط الدارسة بسيرة السلف الصالح، وربط الهدف بواقع الدارسة؛ ليكون القرآن الكريم سلوكاً مرافقاً لها في حياتها اليومية، مع الحرص كذلك على تقوية جوانب البحث واستنباط الفوائد لدى الدارسات، والتجديد في الوسائل التعليمية المعينة لها بعد الله تعالى على إيصال المعلومات بصورة واضحة وسهلة وفي وقت قصير. ثانياً: الحرص على أن تحفظ الدارسة ما لا يقل عن نصف النصاب اليومي أثناء الحلقة، ومما يسهل عليها ذلك تجزئة الآيات إلى مواضيع مترابطة ما أمكن ذلك، والترداد المنظم للآيات مع التدرج في الحفظ (تردد جماعي ثم رمزي ثم فردي)، وإيجاد الحوافز المشجعة على الحفظ. ولكي يكون للمعلمة قبول لدى التلميذات لا بدَّ أن تكون لهم أماً وأختاً كبرى، وأن تشعرهم بحبها لهم وخوفها عليهم، فبذلك تكون لها مكانة عندهم، ويكون لكلمتها وقعها، فهي مربية ومعلمة، والحلقة مملكتها التي تديرها بطريقتها المميزة، فتصل بها إلى أرقى تفكير وأسمى خلق وأروع محبة في رحاب القرآن الكريم ومجالس الذكر. وتضيف العبيد: الأهداف المرجوة من تحقيق ذلك هي اتباع منهج السلف في تلقي كتاب الله تعالى والعمل به، والمحافظة على سلامة وصفاء عقيدة الدارسات، وكشف الشبهات خاصة التي تُثار عن المرأة من خلال الآيات القرآنية، وتعظيم كتاب الله تعالى لدى الدارسات، وتقوية الدافع الذاتي للعمل بالقرآن الكريم، وربط الدارسات بالعمل الشرعي بتعليمهن القرآن الكريم وعلومه وربط العلم بالعمل، وإعداد وتأهيل الدارسات لتعليم القرآن الكريم بإتقان الدعوة إلى الله تعالى، ورفع المستوى في التلاوة وتطبيق أحكام التجويد مع إتقان الحفظ، وتكثير عدد الدارسات، وغرس التقرب إلى الله تعالى في نفوسهن بتلاوة القرآن الكريم وحفظه.