إنَّ المتتبع لحركة التأريخ يجد أنَّ المجتمعات المغلقة لا تهتم بوصف ذاتها، لأنه وحسب السائد في هذا الوضع فإنَّ أيَّ وصف مهما كان جزئياً يعدّ شكلاً من أشكال التحليل النقدي للأوضاع الجامدة، والتي من طول تطاول الزمن عليها اكتست بقداسة موهومة باعتبارها من المسلمات التي يعدّ تشجيع التفكير النقدي بشأنها ضرباً من الخروج والتمرّد على النمط السائد.. ولا يفرح بكلامي هذا فئام درجوا على ضرب المسلمات بسياط حادة من أجل إسقاطها، باعتبار ذلك من الوصف والنقد المطلوب!.. فما هذا أردت وهو في اعتقادي نوع من الهدم المركّز الذي يشوه صورة النقد المفيد ويعيق ترسيخه في الأمة بإثارة مزيد من أعداء النقد المطلوب.. لكن كلامي معنيٌّ بتهيئة الجوِّ المناسب لأن يكون المجتمع مفتوحاً ليكون أكثر اهتماماً بتأمل ذاته، أولاً بشكل وصفي ثم يتدرج لمرحلة أرقى هي مرحلة التأمل النقدي المباشر تجاه أوضاعه الماضية والراهنة بهدف تلمس الخطوات السليمة لمستقبله.. ثم بعد أقول: ليس هناك ما هو جدير بالإزدراء أكثر من الاستخدام الزائف وغير الأمين للمبادئ سواء كانت ربانية أم وضعية من أجل أهداف أنانية تخدم الفرد أو حتى أسوأ من ذلك تخدم الجماعة، لما في ذلك من جناية عظيمة على الأمة بتشويه صورة هذه المبادئ وصد الناس عنها، وفي نفس الوقت استغلالها لتحقيق مكاسب غير شريفة على حساب الآخرين وعلى حساب شرف هذه المبادئ وقدسيتها.. لقد مرت المجتمعات الغربية بمراحل قاسية تحولت فيها من الانغلاق بفعل مفاهيم اجتماعية مغلوطة إلى مجتمعات متفتحة تقبل النقد والتأمل الصريح مما فتح لها مجالاً رحباً من الفضاء الفكري مكَّنها من التطور والازدهار وفق نواميس وسنن كونية لا تتبدل عبر الزمن.. والمتأمل في أمتنا وللأسف يجد أنها وبحماقة محيرة تبدأ من حيث بدأ الآخرون فتكرس الانغلاق والحجر الفكري ليس بسلطان سياسي فحسب بل وبسلطان ديني في أسوأ الظروف رغم أنَّ ديننا وبكل وضوح ودلالة قطعية لا تقبل التأويل يحث على التأمل وإعمال العقل حتى عدّ ذلك من أفضل العبادات.. إنَّ تكريس التقليد والتبعية الفكرية يأسر العقول ويحيلها إلى الأسر الفكري ويغلق أمامها أيّ أمل في الثقة بأن هذه الطاقات الكامنة يمكن أن تثمر اجتهادات نافعة.. ليس هناك أمّة أذكى من أمَّة بل إنَّ كلّ أمّة تحظى بمواهب شتى لحكمة إلهية من أجل التكامل البشري في عمارة هذه الأرض والاستخلاف فيها إلى أجل مسمى.. وليس هناك أمّة دعيت إلى هذا الدور الإيجابي والريادي لقيادة الأمم في الاستخلاف إلا أمّتنا.. فهل هي مهيئة بوضعها الراهن لهذا الدور؟.. الجواب وبكل أسى وأسف أنها في وضع لا تحسد عليه وانتشالها منه يحتاج إلى جهود جماعية متواصلة ووفق مراحل وبرامج مدروسة، وإلا فإنَّها ستراوح مكانها بل ستتقهقر إلى الوراء والأمم الأخرى تتوارى عنها بتقدم مطّرد.. لقد جنى بعض أبناء هذه الأمَّة عليها جنايات عظام لم تحصل من أعدائها المبارزين فتخلفنا وضعفنا لم يحدث بسبب أعدائنا فقط وما لهم بدّ من إحداثه، لكن المؤلم أن نكتوي بحماقات وجهالات ممن يحسبون على هذه الأمَّة، وعظيم الجناية يتجلى في الاستغلال المشين للمبادئ والقيّم في الاحتراب المتضاد وسط الأمَّة حتى غدينا أضحوكة للأمم الأخرى تستغل حماقاتنا أبشع استغلال، ونحن ممعنون في غيّنا لا نلوي على شيء قد أغلقنا سمعنا عن حقِّ قد بانت معالمه، وكأنَّ الأمَّة قد خلت من عقول رشيدة توقف هذا الهدر وهذا الانتحار الجماعي الذي يزيد من تآكلنا ويزدرينا ويشوه مبادئنا أمام البشرية جمعاء.. فلا نامت أعين الجبناء، ما أعظم الجهل المركب وما أشدّ جنايته على الأمَّة مع بروز مشين للمتسلقين على الجماجم والمبادئ بخداع زائف، حقّ لنا جميعاً أن تتضافر جهودنا لكشف زيفه وبيان عواره حتى تنجلي الغمة وينبلج الفجر المشرق، عسى أن يكون ذلك قريباً والله المستعان. (*) فاكس: 4272675 - ص.ب 31886 الرياض 11418