ومعرفتي بحبه لأخيه (نبيل) -رحمه الله- وشعوره بعظم فقده، أعر أن كل بيت فيه موت أو فقد، هو عن (نبيل) خاصة عندما يؤكده بوعاء الكرم الطافح. يقول في (مضيف الموت) (ص:51): حسبتَ الموت لما جاء ضيفا أتاك.. يؤم مضيافا كريما وقلت له: (أهلا وسهلا) كأنك حاضر خلا حميما بيتان معبران، فيهما الإبداع الذي تعودنا عليه من الشاعر. وهنا صورة خلابة للكرم، لا أظن الشاعر قد سبق إليها بهذه الصورة: الموت وهو مخيف يحتضن الحبيب كأنه صديق حميم.. لا يأتي هذا القول إلا من عاطفة متقدة. *** ولا أود أن اذكر الأبيات التي فيها ذكر الموت، ولكني أدون هنا عناوينها، وصفحاتها، لئلا يطول الحديث، وحتى لا أفرض الصور التي أخرج بها من الأبيات على القارئ، بل أعطيه الحرية في الصور التي قد يخرج بها، ومن المؤكد أن الصفات التي سبق أن عددت بعضها سيجدها القارئ فيما لم أذكره: لقد رأينا كلمة: (لقيا الموت) (ص:15) في (مفارقة) كذلك هناك العنوان: (نموت) (ص: 18)، والعنوان يدل عليه. وترد كلمة: (الموت) في البيت الذي عنوانه: (استعداد) (ص:24). والموت ورد في البيت المعنون: (نعي) (ص:25). ويأتي ذكر الموت في (صيف الموت) (ص:5): وتأتي الكلمة في: (خالد) (ص:27)، ويرد ذكر الموت في (الواحدة) (ص:28)، وصوت الموت في (سباق) (ص:29). وفي (عمر أبو ريشة) (ص:30) ذكر للموت. وفي: (قاطبة) (ص:33) قتل. وفي (الموت قتلا)، (ص:33) جمع الموت والقتل، وفي (استفهام) (ص:35) يطل الموت. و(في فاجعة) (ص:48) يموت العز. وفي (إغراء) (ص:49) يذكر موته. وفي (مضيف الموت) (ص:51) يحسب الموت ضيفا. وفي (تحرير) (ص:56) حتف مروع. وفي (غناء) (ص:56) قتل ومقتول. وفي الأمة العربية (ص:58) تقتل الأمة أولادها وتغتالهم. وفي (الموت وروتين الحياة) (ص:58) يموت جيل ويتلوه جيل. و(على العلات) (ص:59) هناك من يذبح. وجيش الأشباح في (أشباح) (ص:62). كما رأينا كلمة الموت والذبح والقتل كلمات أخذت مكانها من أبيات اتسمت بالقوة، وحسن التصوير، وجاءت هذه الكلمات في مكانها المختار، معبرة عن شعور الشاعر، ورقة إحساسه. وفي بعضها رقة الوصف، وفي بعضها الحكمة الصائبة. الموت حاضر في ذهن الشاعر، لأنه أخذ منه من هو عزيز على نفسه، والده، ونبيل، وتكفي ذكراهما، لتجعل الموت حاضرا أو شبحه. *** الشاعر عاش بين البر والبحر، عمر هنا وعمر هناك، ولهذا لا غرو أن تأتي بعض ألفاظ هاتين البيئتين مسيطرة على الصور التي يرسمها، أو مكملة لصورة لا تكمل بدون كلمة تؤخذ من دوح الروض وطيره وغدرانه، أو سفين ذاك البحر، وأشرعة سفنه، والمرافئ والموانئ، والإبحار، والرسو، والغرق، وكأنه يكمل صورة الموت التي ترددت في الأبيات التي اختارها: فمن الصحراء أخذ رقص السراب (ص:12)، ومن البحر يأتينا شراع مبحر (ص:13)، ومعه غريق. ومن البحر تأتي المرافئ والموانئ، والإبحار والرسو (ص:14). وفي (بطاقة، تعريف) (ص:15) اخضرار المروج، والمروج في البر، و(ابن الجفاف)، والجفاف في البر، وفي (العمر: تعريف) (ص:16) (ظما قفرٍ) من لوازم الصحراء. و(ذخر الزلازل) (ص:17) مستلزمات الأرض عادة. وفي (تساؤل): (ص:17) يجمع باقة بحرية: (غريق)، و(بحر)، (وموج)، و(شراع)، و(شراع)، و(ميناء)، و(تلوح ذراع مودعة). لقد بم الشعور هنا: امتلأ الحوض وقال: قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني! وفي (واحة) (ص:28) تطل لازمة من لوازم الصحراء، ففي اليبت (واحة)، و(رمال) و(ظمأ). وفي بيت عنوانه: (تحويل) (ص:33) تطل الصحراء، ومستلزماتها من ري وخصب، وفي (بوح) (ص:34) (يمطر الليل أنجما) مظهر من مظاهر الطبيعة التي عشقها الشاعر. وهناك (بساط الريح) (ص:36)، معه الليل، والنجمة المسحورة، وتأتي الصحراء عنوانا (ص:39)، و(اعتذار) (ص:39) فيها الذئاب، وبيئتها الصحراء. ولا يبعد كثيرا عن البحر: ففي (بحار) (ص:42) تأتي بحار القريض، ويأتي أسطول. وفي (اسمها) (ص:44) تمطر السماء ماءً وسماء الشاعر تمطر ذهبا، والمطر ضحكة الصحراء، ويسير على الأرض، ويمر بالروض في (أعيذك) (ص:45) والروض صامت، وزهره واجم، والأقمار في (عن الأقمار) (ص:46). وهكذا تتوارد الصور ففي (أسطورة) (ص:46) الذئب والحمل صورة من الصحراء، وفي (شتاء) (ص:46) الروض والربيع، ثم تأتي صورة من البحر مرة أخرى في (أفق وبحر)، وفي (إدمان) (ص:49). وعلى الأرض (ينابيع)، و(رمضان) وينبوع. والشراع ينشر في: (ابتسامة الفراق) (:50). ومظاهر الطبيعة شرقا وغربا في العنوان: (ثلج.. وربيع) (ص:51)، في هذا البيت (ثلج) و(أرض) و(وربيع) و(عشب). وفي (الشريد) (ص:52) نرى شريدا في القفار، تتلهى به الرمال، وتقذفه بالغبار. سمات صحراوية. ثم ندلف معه إلى البحر في (المحاورة) (ص:55) ومع المحارة اللؤلؤ المكنون. وفي: (رموز) (ص:57) نجد الحمامة والصقر والبازي، مكملات للطبيعة في البحر، وقد يختص بهذه الطيور الروض. وفي (منسب) (ص:57) نرى الهيكل العظمي الذي كان يلبسه الشاعر كساءً، يعطيه صفة يختارها، أما هنا فلا دثار، (بدو) وهم قاطنو الصحراء، وبحارة مداومو السفر في البحار. وإن كانت الصورة بهذا ليست واضحة فقد (حبرها) في (البر) و(البحر) من الشطر الثاني من اليبت. وفي (تفاؤل) (ص:60) يعبس وجه الصحراء من زوابعها، ولكن في رياضها تبتسم الورود والأقاحي. وفي (مهب الريح) (ص:60) يجتمع الورد وهبوب الرياح. وفي (الذكرى) (ص:60) يقترب مرة أخرى من (الضفاف) و(الغرق). *** ولأنه شاعر مبرز، فالشعر ودوره المتعدد الأغراض في معالجة أمور الحياة، لا يغيب عن باله، فهو لا يكتفي بسبك الشعر في بوتقته، وإنما يدخل ألفاظه في كثير مما يبنيه من أفكاره، ففي (شعر الدموع) (ص:18) يقول: اسندي الرأس.. فوق.. صدري.. وابكي رُب دمع يُزري بشعر الفحول لقد وجد ما هو أقوى في دوره من الشعر الذي يأتي من فحول الشعراء. وفي (احتكار) (ص:18) يقول: أنا وحدي شاعر المجد الذي يتمناه خيال في خيالك هذه روح المتنبي الفخور بشعره، الدال به على الحكام، ولكن غازيا، شاعر زمننا، لم يترك للنقاد مدخلا عليه، فقد حصر فخره في خيال محبوبته لفظا، ولكنا نعرف أنه يفخر على الناس أجمع، وإن وضع على المشجب ثوب امرأة.. كيف يعد شاعرا إذا لم يفخر بشعره؟ والزهو سمة الشعراء. *** وللشعر عند غازي تعريف غير التعريف الذي نعرفه بأنه الكلام المقفَّى الموزون بالأوزان المعروفة، وفي: (الشعر: تعريف) (ص:20) يحدد معالم الشعر، فيقول: الشعر قفزُ لحظة من الحياةِ في نَغَم *** وليبتسم قوله عن شعره في (خلود) (ص:23) ألصقه نجد حبيبته، فقال: شعري كحسنك.. لا يخبو شبابها لم تشك ليلى ولا مجنونها هرما *** وفيما هو يغني بشعره يغلبه أسلوبه في التضاد، فيقول في: (دموع القلب) (ص:23) أشدو فأطرب بالغناء.. وربما صدح الهزار.. وقلبه يتصفد وهذا موقف يقفه كل الشعراء رقيقي العاطفة، وهنا ما قاله أحدهم، وهو عامي: أضحك مع اللي ضحك والهم طاويني طوية شنون الطَّرَق وإن قطّروا ماها *** ويحدد الشاعر جيد الشعر في (طفولة) (ص:32)، فيقول: خير شعر ما قيل والقلب طفل خير حب ما مات وهو جنين يحتاج القارئ إلى سباحة ماهرة ليصل إلى مرامي بلاغة البديع، والعمق الذي رسم بها. وإذا رسم القارئ الصورة التي ظن أنه قصدها خانك في فهمك الشطر الثاني، فهو يوحي بصورة أخرى، فأنت بين الصورتين صورة. ويقول إنه يختل صويحباته بشعره عن طريق (حيل) (ص:44)، فينشد كاشفا سرا لعله لم يظهره إلا بعد أن أدى غرضه، ووقعت الضحايا في الحيلة والختل: لا تخدعنك أبيات أنمقها فإن زخرفة الأشعار من حيلي وأصدق الشعر بيت فر من شفتي وضل عن درب قرطاسي.. فلم يصل *** وثقته في شعره، وفي تأثيره، وجعله بضاعته المزجاه، يبينه في (وعد) (ص:61): سأجعل من عينيك أنشودة الورى سأجل من عينيك معجزة الفن وأنشد في عينيك شعرا إذا شدا به سامر.. هام المسامع اللحن *** ويأتي بصور بديعة يقف القارئ أمامها متمليا بما فيها من انفراد في الرسم، أو دقة في المعنى، أو حسن في الأسلوب، أو جمال في التعبير. وهي تلمس جانبا من جوانب الحياة، وقد يمر بكثير من الناس، ولكنهم لا يقتنصون صيده مثل غازي، فغازي ينظر بعين شاعر، وفكر فنان، منطلقا من ذهن صاف، ونظرة ثاقبة، وذوق رقيق. وهو بهذا كله يقول البيت المؤثر على القلوب. حنو غازي على الفقير، وعطفه على اليتيم، وحبه لمساعدة المحتاج، تجعله يقول بيتا ينبض بالمروءة، ولهذا أعطى البيت عنوان: (المروءة: تعريف) (ص:11) إن سهرت مقلة في الظلام رأيت المروءة أن أسهرا *** وليس بعيدا عما قاله في ذلك البيت ما قاله في البيت الآتي: (كل الناس) (ص:36)، لأن شعوره نحو غيره يسكن قلبه، كأنه ولي أمر كل أحد، وما يراه من معاناة الخلق تتغلغل فيه حتى تستقر في العظم، مسامرة له: آهات كل الناس تسكن خافقي وعذاب كل الناس يؤنس أعظمي ويعتلي في هذا الأمر في الأفق، فيقول في (الشيب: تعريف) (ص:38)، وهو مغرم بالتعاريف، فيعلن عما يعتقده أفضل تعريف للشيب، وللضعف والوهن، فالشيب وما يأتي معه ليس في بياض الشعر، أو تجعد الوجه، أو رعشة اليد، أو المشي باهتزاز، وليس في تدهور السمع أو البصر، ولكنه في سقوط المرء من مقعد المجد والشرف، مؤكدا ما يقوله المثل العامي: (حيّ الشيب قبل العيب): ما الشيب أن تفقد الألوان نضرتها الشيب أن يسقط الإنسان مندحرا *** في (الحي الميت) (ص:12) يخدعنا الشاعر بأسلوب يجبرنا على الوقوف والتأني، فهو يترحم على من تظنه صديقا مات، أو قريبا دفن، أو حبيبا فقد، وتفاجأ أن المترحم عليه هو من خان الرفيق. صدق غازي! رحمة الله عليه إنه مات.. هل عاش الذي خان الرفيقا *** والشاعر يتلذذ في المعتاد بحديث حبيبته، ويتلذذ بإسماعها غزله فيها، ولكن شاعرنا، خلافا للمعتاد، يمل الحديث منها له أو منه لها. ما الذي جعله يفعل ذلك؟ أهو الخطو نحو المشيب؟ (أقول هذا بخبث) أم أن حديثها فيه نزق لا يتماشى مع جمال الوجه، ورشاقة القوام؟ لابد أن عينيها جميلتان، وإلا كيف تغوص إلى أعماقه.. قد يكون هناك معنى آخر لا أجهله! ولكني بدأت الحديث عما بدأت به (بخبث)، وسوف أُبقي الخبث، فلا أفصح عما قد يكون أوحى به البيت غير ما ذكرت. البيت بديع، وجاء تحت عنوان: (الحب الصامت) (ص:12): أُرهِقتُ من حمل الحروف.. فحدثي بالحب أعماقي.. ولا تتكلمي! *** وتأتي الحكمة في صورة بديعة في (كلام الجرح) (ص:12) اترك الجرح لحظة.. يتكلم