لم يكن نديم الجسر الذي قدَّم الى القراء العرب سنة 1964 الشاعر الإسباني الرومنطيقي الشهير غوستافو أدولفو بيكر من خلال مجلة "الأديب" سوى بديع الرماد شاعر العرائش الهارب أبداً من الأضواء. ولم يكن نديم الجسر سوى واحد من أسماء بديع المستعارة التي كان يوقع بها قصائده وترجماته وكتاباته النثرية ومقالاته الساخرة على صفحات "المشاهد" و"النهضة" و"الأديب"، إضافة إلى جريدة "العلم". فهو ابن النديم تارة، وتارة أحمد العرائشي، وأحياناً علي الشاوي. هكذا ظل هذا الشاعر المغربي القلق ذو المزاج الصعب موزعاً بين الأسماء من دون أن يغادر قلعته البحرية في العرائش إلا إلى إسبانيا حيناً تلو آخر أو إلى أصيله لمجالسة رفيقي عمره وشعره المهدي أخريف وخليل غريب. لذا حينما أهداني الشاعر المهدي أخريف نسخة من كتابه الجديد "بديع الرماد" الصادر حديثاً عن منشورات "سليكي إخوان" في طنجة، شعرت بفرح حقيقي. فهذا شاعر مغربي مرموق ذو قيمة أكيدة يكرس بعض وقته للتعريف بشاعر مغمور من أبناء جيله. شاعرٌ كان صديق طفولته كما يحكي هو نفسه ويحرص على إخراجه من عزلته عبر تخصيص كتاب كامل له. الكتاب يضمّ حواراً مطولاً تحت عنوان "ولي رخامة في البيت" أنجزه أخريف معه على مدى أربع جلسات في شهر حزيران يونيو الماضي، إضافة إلى مقالة طريفة تحت عنوان "بديع وخليل" يقارن فيها أخريف بين شخصي أو مساري كل من صديقيه المنسحبين الزاهدين الشاعر بديع الرماد والفنان خليل غريب، ليختتم الكتاب بدراسة "بديع الرماد مترجماً للشعر" وهو سبق أن ساهم بها في ندوة الترجمة التي احتضنتها أصيلة قبل سنتين. وفي هذه المقالة يتجاوز أخريف عرض مشاريع بديع وأفكاره حول الترجمة إلى عقد مقارنة بين ترجمتين أنجزاها لسونيتة "حب راسخ في ما وراء الموت" لفرانسيسكو دي كيبيدو. وبعدما أورد الترجمتين معاً يعترف برجحان كفة بديع على كفته، خصوصاً في ترجمة الشعر الإسباني الكلاسيكي. كانت سعادتي بقراءة كتاب أخريف لا تُضاهى لأنها مكنتني من اكتشاف شاعر مغربي مغمور لم أكن لأسمع عنه لولا أخريف نفسه الذي حدثني عنه مرة، عَرَضاً، في جلسة سمر شعرية جمعتنا في أحد مطاعم مارسيليا وكان بيننا "الأبيض الرقراق". وقد استحضره الناقد بنعيسى بوحمالة خلال ندوة حول الشعر الحديث في الصويرة معتبراً إياه أحد أهم شعراء الحداثة في المغرب، ما فاجأ الحاضرين في الندوة الذين لم يكن أحد منهم سمع بهذا الاسم من قبل. وكان شاعرنا ليبقى منسياً لولا عبداللطيف درويش الذي يُدرِّس إحدى قصائده القديمة لطلبته في كلية الآداب في الجديدة، وسعد سرحان الذي يحتفظ له في مكتبته بمقالات سبق أن نشرها بديع في "النهار" البيروتية في نهاية الستينات، إضافة إلى مقاله الساخر "لا حياة لمن تنادي" المنشور في "العلم" سنة 1963 والموقّع باسم ابن النديم والذي لم يعرف سرحان كاتبَهُ الحقيقي إلا بعد أن مرّرتُ له قبل أيام فقط كتاب أخريف. ولأن المفاجآت أحياناً تأتيك دفعة واحدة، فقد تفضّل الأصدقاء في نادي الموظفين في العرائش بدعوتي إلى لقاء أدبي في مدينتهم البحرية الجميلة في نهاية الأسبوع الأول من هذا الشهر. بعد اللقاء دعاني الصديق الشاعر محمد عابد إلى بيته للعشاء. وبعدها خرجنا للتسكع قليلاً في ليل المدينة الساكن حينما صادفنا شخصاً جالساً بمفرده في حديقة البلدية. كان يبدو كشبح حينما سألني عابد: "هل تعرف هذا الرجل؟"، - "لا". فقال لي: "هذا شخص كان يكتب الشعر في الستينات لكنه انطفأ مبكراً، وهو يعيش الآن وحيداً بعد وفاة زوجته، يصاحب الصيادين ويتسكع في ليل العرائش وليس له في هذه المدينة من رفقة أو أصدقاء". - "وما اسمه؟" سألت، فأجابني قائلاً: "لا أعرف لقبه. لكن الصيادين ينادونه بديع". النداء الغامض ياه، كم هو غريب هذا العالم. بديع الرماد الذي صاحبني طوال رحلة أبو ظبي شخصياً! الآن فقط عرفت السرّ. سرّ هذا النداء الغامض الذي جعلني أنا القادم من سفر مرهِق ألبّي نداء العرائش في الوقت الذي كان الجميع بما في ذلك الجمعية الداعية يتوقعون مني الاعتذار. جئت إذاً للقاء بديع والتعرف إليه مباشرة. طلبت من عابد أن يبادره بالتحية ففعل. كان الرجل ودوداً معنا، وحين قدمت له نفسي رحّب بأناقة لافتة ثم دعانا إلى الجلوس على مقعد في الحديقة وبدأنا الحديث. حديثٌ أجد نفسي مجبراً للأمانة على نقل بعضه. على خلاف ما توقعته مثلاً بدا بديع الرماد مستاءً إلى حد كبير من الكتاب الذي صدر أخيراً عنه. ففي خصوص الحوار، يؤكد بديع أنه أبلغ أخريف تحفظه على صياغاته النهائية التي "تعكس روح المهدي أكثر مما تعكس روحي، يقول، وعوض أن يبدي أخريف التفهم المطلوب لملاحظاتي، نشَرَ الحوار كما صاغه بعناد آلمني شخصياً، والْتَفَّ على تحفظاتي بتنويه ملتبس أبدو فيه كشخصٍ ممسوسٍ مرتبك ذي مزاج متقلب". وبالفعل أورد أخريف على هامش الحوار "تنويهاً" في الصفحة 61 من الكتاب قال فيه: "في جلستنا الأخيرة المخصصة للصياغات النهائية، بدا لي بديع شخصاً آخر غير الذي عرفت في الجلسات الحميمة السابقة، فقد تدخل بتوتر ملحوظ أكثر من مرة، ليُعدِّل أو يغير تماماً من مقاطع أو فقرات عدة كان استحسنها في مرحلة الصوغ الأولى. كما أن غير قليل من آرائه ومعالجاته المقبولة في نظري بدت له أخيراً غير ذات معنى. بل إنه لم يتردد في أن يطلب مني حذف ست صفحات تقريباً هي من ألطف لحظات الحوار وأقواها". بدا بديع مندهشاً أيضاً من إصرار أخريف على نشر هذا الكتاب من دون أن يُضمِّنه أياً من أشعاره، "على رغم أنَّني، يؤكد بديع، وفَّرتُ له عدداً من قصائدي الجديدة لتُنشر مع الحوار والمقالين في هذا الكتاب". وهو ما يعترف به أخريف نفسه في "هامش ثان" قال فيه: "ما إن اطلعت على هذه القصائد الواقعة في 26 صفحة حتى اقتنعت على الفور بعدم صلاحيتها للنشر على رغم رغبة صاحبها غير المفهومة في نشرها على هامش الحوار... يتعلق الأمر في الحقيقة بهلوسات وتخليطات لغوية في غاية البذاءة... ويبدو لي أنها "قصائد" مكرّسة للتهكم من الشعر ومن الأنا ومن كل منطق ممكن في التعبير والتفكير" ص52. الحقيقة أنني لم أعد أفهم المهدي أخريف. أليس التهكم من الشعر والشعور بلا جدواه في زمن لم نعد نحس جميعاً، وليس بديع الرماد وحده، بحاجة قطار الزمن المسعور إلى فحم القصيدة، موقفاً شعرياً في حد ذاته؟ الحقيقة أن بديع قرأ عليَّ في جلسة الحديقة تلك، هكذا من الذاكرة، مقطعاً من قصيدته "خذيه ليس الآن بالتقسيط". ففاجأتني بقوتها وتوترها الشعري. كان على أخريف أن ينشر شعر بديع في الكتاب لكي يعطيه فرصته في معانقة القراء، هو الذي ظل عازفاً عن النشر عقوداً. وإذا لم يكن صاحب "قبر هيلين" راضياً على جديد صديقه، أما كان أجدر به أن يعود مثلاً إلى أحد دواوينه الثلاثة القديمة ليختار منها ما يجيد تقديم تجربته الى القراء وهي الدواوين التي صدرت في نسخ محدودة جداً، عشرون نسخة فقط بالنسبة الى الديوان الثالث، ووُزِّعت توزيعاً رمزياً جداً كما لو أنها منشورات سرية تدعو إلى قلب نظام الكون. ألم يكن انتخاب بضع قصائد من هذه الدواوين ضرورياً لتكتمل الصورة للقراء؟ أما إلغاء صوت بديع الشعري في هذا الشكل في كتاب من المفروض أنه يعيد الاعتبار الى تجربته، فهو أمر غير مفهوم. كنت دائماً ولا أزال أشعر بتقدير خاص لتجربة مهدي أخريف الثرية، شاعراً ومترجماً وناثراً. ولكن إذا خُيِّرت بين أخريف وبديع الرماد، فإنني سأنحاز إلى بديع ليس عن تنكر لأخريف بل إمعاناً في صداقته. لذا وتأكيداً لهذه الصداقة اقترحت على الإخوان في اللجنة الثقافية لنادي الموظفين تنظيم ندوة حول تجربة بديع الرماد في الشعر والحياة يساهم فيها أصدقاؤه القدامى كالأمين الخمليشي وعبدالحميد عقار، والمهتمون بشعره من نقاد وجامعيين كبنعيسى بوحمالة وعبداللطيف درويش. ولأنني أتوقع من بديع الذي لم يعد يطيق مجالسة الأدباء ألاّ يحضر هو الآخر، فإنني أستطيع تخيلهما معاً، مهدي وبديع، وبينهما "الأبيضُ الرقراق" وهما يناقشان ترجمة أحدهما لقصيدة إسبانية جديدة، فيما الندوة تناقش بجدية لا غبار عليها ما سماه بنعيسى بوحمالة "علاقة المادة الحجرية بالرؤية الميدوزية في شعر بديع الرماد".