قد أكون في كتابتي لهذا المقال غير محايدة أو مدفوعة بعاطفة قوية تجاه البلاغة العربية بحكم التخصص أكثر من باقي علوم هذه اللغة الأصيلة التي نزل بها القرآن الحكيم، لكنني وجدت أن البلاغة أكثر العلوم التي تسبر أغوار النص الأدبي، وأكثرها دراسة للنظم القرآني المعجز في محاولة من علماء التراث البلاغي للوصول إلى أسرار إعجاز القرآن العظيم، والقرآن كتاب معجز في نواحٍ عديدة منها الإعجاز البلاغي الذي كان وسيلة التحدي للعرب البلغاء، وفي محاولة العلماء للوصول إلى سر الإعجاز القرآني صنفوا مصنفاتهم البلاغية سواء في الإعجاز القرآني خاصة أو النصوص الأدبية الأخرى كالحديث النبوي الشريف الذي يأتي في المرتبة الثانية من البلاغة العربية أو شعر العرب وهم في كل يلتمسون جماليات هذه النصوص اللغوية. وقبل الشروع في ذكر سبب نعتي للبلاغة بأنها نكهة علوم العربية وطعمها الخاص أود أن أذكر نصاً مهماً لأبي هلال العسكري المتوفى نهاية عام 395ه ذلك القرن الذي أخذت كثير من علوم العربية الإسلامية تنضج، حيث يقول إن أحق العلوم والمعارف وأولاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله جل ثناؤه علم البلاغة ومعرفة الفصاحة)(1) إلى آخر ما قال من الثناء على هذا العلم الجليل، وبالنظر إلى باقي فروع العربية كاللغة مثلاً فالمعروف أن اللغة كما قال العلماء إما اصطلاحية النشأة انطلاقاً من قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}، أو ربما كما يقول طائفة أخرى كابن جني نتيجة للأصوات التي يسمعها الإنسان من الأشياء والكائنات من حوله وهذا رأي له قدره من الوجاهة لكن العلم القرآني أولى بالتصديق والتسليم، وإن كنت أعتقد بجواز الرأيين مجتمعين، فالدارس للغة قد يدرس الظواهر اللغوية في اللغة العربية وهي كثيرة كالإبدال والنبر وغيرها دراسة لا يستعمل كثيراً فيها الذوق وإذا ما حدث شيء من التذوق للظاهرة اللغوية فسيكون أدخل في باب البلاغة، فحينما علَّل ابن جني ظاهرة النبر بالمقام الذي يكون فيه المتحدث، فهذه بلاغة لأن البلاغة كما قال المتأخرون من البلاغيين (ملاءمة الكلام لمقتضى الحال) وهذه كلمة عميقة المعنى عند البلاغيين ودراسة الظواهر النحوية قد لا تخرج عن أمرين السماع أو القياس فهي تحتاج من الدارس إلى معرفة النصوص العربية السابقة التي بنى عليها النحوي قاعدته النحوية أو القياس على هذا السماع وهذه عملية قد تحتاج إلى جهد عقلي أكثر منه ذوقي، ثم البلاغي قد ينطلق من كلام عالم النحو واللغة للوصول إلى أسرار الكلام البليغ، فهذا الشيخ عبد القاهر الجرجاني ينطلق في أكثر من مسألة بلاغية من بعض أقوال سيبويه كقوله (إنهم يقدمون الذي بيانه أهم وهم بشأنه أعنى)، فذهب عبد القاهر يقيم أبحاثه في التقديم والتأخير وأسرارها في بلاغة النص الأدبي على هذه العبارات القصيرة لفظاً العميقة معنى، والأدب شعره ونثره هو المادة التي يعمل فيها البلاغي علمه ويطبقه، فالبلاغة تخدم الأدب والأديب سواء كان مبدع النص ذاته أو الناشئ الذي يتعرَّف عن طريق البلاغة على جماليات هذا النص، والبلاغي في ذلك لا يختلف كثيراً عن الناقد فهو أيضاً ناقد، والبلاغة أكثر صلة بالنقد، لكن البلاغة أكثر حركية من النقد لأنها تطوع هذه النظريات النقدية وتستثمرها بشكل تطبيقي، والمقولات النقدية في اللفظ والمعنى وفي أي منهما استثمرها البلاغيون في استنتاج جوهر البلاغة، فالجاحظ يقول (المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي، والبدوي والقروي، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير)(2). هذه العبارة وغيرها من عبارات الجاحظ الثمينة استثمرها بلاغي ذكي كالإمام عبد القاهر في الوصول إلى جوهر البلاغة وإيضاح الصورة الواضحة والمقنعة في هذه القضية، فعلوم اللغة العربية جميعاً متكاملة ومترابطة ولا يستغني بعضها عن بعض لكن البلاغة حسب علمي القاصر هي الوعاء الحاوي لهذه العلوم. ومقولة (ما ترك السابق للاحق شيئاً) مقولة خاطئة ولا شك، ولا أعني بذلك أن علماء البلاغة القدماء لم يضعوا الأصول والأساسيات للدراسات البلاغية الحديثة إطلاقاً، لكن قد يجد الدارسون المحدثون صورة لم تكتمل كثيراً في بعض المسائل مثلاً الدلالة الصوتية للكلام وأثرها في جمال النص خاصة في كلام المولى - عزَّ وجلَّ- وسيجد إشارات في ذلك عند الجاحظ وابن جني وابن الأثير تضيء له الطريق في دراسته البلاغية الحديثة، وأعجب من افتتان بعض الدارسين النقاد المحدثين بالنظريات والمناهج النقدية الحديثة في دراسة النص الأدبي مع أن في تراثنا البلاغي والنقدي كنوزاً ثمينة تستحق استثمار الباحثين لها واشتغالهم بها، وليس معنى هذا أنني ضد المعاصرة والاستفادة منها لكن ضد النظرة القاصرة لبلاغتنا العربية ونقدنا العربي الثر ولا مانع من تطوير هذه النظريات والمناهج الحديثة بما يتناسب مع لغتنا وتراثنا الخاص بنا، فبعض هذه المناهج قد تناسب لغات أصحابها ولا تتناسب مع لغتنا الراقية والخالدة، وهناك بعض النقاد يرون منهجاً وسطاً في الجمع بين الرؤية التراثية والحديثة والتوفيق بينهما والخروج برؤية جديدة وهو منهج جيد ولا شك، والكلام في هذا الموضوع قد يطول وقد يتصدر للحديث فيه علماء أفذاذ من علمائنا المحدثين أقدر وأجدر مني لمثل هذا الحديث. ومع ذلك فإن تراثنا غني لمن أراد الغنى، وزاد لمن أراد الزاد، فلا نغتر بما عند الآخر فما عندنا أقوى وأجمل وأبقى. مع تحياتي: إبتسام البقمي للتواصل: مكةالمكرمة 1655 - فاكس 025583749 الهوامش: (1) أبو هلال العسكري، (الصناعتين - الشعر والنثر) ص9وما بعدها