نظريات كثيرة تتصل اتصالاً مباشرًا بلغة القرآن الكريم، منها ما سعى في خدمة هذا القرآن، ومنها من حمل الإساءة إليه، وفي هذا الحوار السريع، نقف مع أستاذ البلاغة العربية الدكتور محمد أبو نبوت، نستنطق منه بعضاً ممّا له علاقة بالبلاغة العربية خاصة أن القدماء من علماء الأمة رهنوا جهدهم البلاغي في خدمة النّص القرآن الكريم، وفي ضوئه قامت قواعد البلاغة.. ولكن لماذا تتهم البلاغة العربية بالموت؟ ولماذا توقف البحث البلاغي عند نظرية النظم لعبدالقاهر الجرجاني؟ ولماذا لم يحفل المتقدمون والمتأخرون بالبلاغة النبوية؟ وما علاقة كل ذلك بموت البلاغة، وموت (المؤلف)، ونظرية (الشك)..؟ كل ذلك سنقرؤه في ثنايا هذا الحوار: ما رأيك بالنَّظرية القائلة ب (موت البلاغة العربيّة)، وأنَّها قد أدَّت الدَّور المطلوب منها في مرحلة من المراحل؟ هذه نظرية خاطئة ولا تقوم على أساس يمكن أن يعتمد عليه في هذا القول. فالبلاغة خالدة لا يمكن أن تموت أبدا؛ لأنها ترتبط بالكلام من حيث الحكم عليه صحة أو فساد، وحسنا وقبحا، ودرجات الحسن، ودرجة إحسان القائلين، وكلام الناس لا يتوقف ولا ينقطع أبدًا، هذا فضلاً عن اتصال البلاغة بالقرآن الكريم اتصالاً مباشرًا وقد تكفل الله تعالى بحفظه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وهذا يتضمن يقينًا حفظ اللغة العربية وكل العلوم المتصلة بالقرآن الكريم اتصالا مباشرًا وعلى رأسها البلاغة العربية. نظرية النظم يُقال إنَّ الإعجاز البياني في القرآن الكريم قد توقَّف منذ نظريّة الإمام عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- فلم يعد هناك بحث يمتاز بالعمق حول الإعجاز البياني؛ فكلّ ما يقدم إنِّما يدور في رحى تلك النَّظريّة.. ما تعليقك؟ الإعجاز البياني في القرآن الكريم لم يتوقف منذ الإمام عبد القاهر الجرجاني، ولكن كل ما في الأمر أن كل ما يقدم في قاعات الدرس البلاغي خاصة وما يكتب وينشر بصفة عامة – في معظمه – يدور حول نظرية النظم. ولكن في الحقيقة هناك نظريات متنوعة ومتعددة في الإعجاز البلاغي والدرس البياني .. لم تأخذ حظها يُقال إنَّ البلاغة النَّبويّة لم تأخذ حقها مِنْ قِبل بعض الدَّارسين في العصر الحديث وحتَّى القديم .. فللأقدمين عذرهم لانشغالهم ببلاغة القرآن الكريم، في حين لا عذر المتأخرين.. ماذا تقول؟ نعم البلاغة النبوية لم تأخذ حظها من قبل كثير من الدارسين قديما وحديثا، والعلماء المتقدمون كان جل اهتمامهم منصبا على القرآن الكريم، ولذلك انشغلوا به عن كثير من العلوم الأخرى ومنها البلاغة النبوية. أما في الحديث فالدارسون والباحثون يبحثون عن كل ما هو وميسر ومطروق وطرقه معبدة. وكل هذا ينطبق على الدراسات القرآنية ولذا كثرت الدراسات القرآنية في العصر الحديث، والسبب في قلة الدراسات المختصة بالدراسات النبوية هو قلة الدراسات السابقة ومن هنا اتجه الكثير إلى ما هو مطروق وميسر. ما علاقة البلاغة العربيّة بالنّظريات النَّقديّة الحديثة؛ خاصَّة أنَّ البعض يقول بقصور البلاغة العربية أمام النّظريات النَّقدية المُحْدثة؟ العلاقة بين النظريات النقدية الحديثة والبلاغة العربية هي علاقة استلاب؛ فالنظريات النقدية الحديثة هي في معظمها استلاب من البلاغة العربية، وهذا الاستلاب – في معظمه – يقصد إلى أمرين: الأول: تشويه البلاغة القديمة، والثاني: إسباغ الشرعية على النظريات الحديثة حتى يظهروا أن هذه النظريات لها صلة ووجود في البلاغة القديمة، ولكن في حقيقة الأمر هي لا تخرج عن دس السم في العسل. نعم هناك بعض القصور في الدرس البلاغي ولكن سببه أن الدارسين الآن لم يجددوا في البلاغة، فالبلاغة القديمة مناسبة للزمن الذي نشأت فيه ومناسبة لعقول أصحابها ومتطلباتهم. فالقصور ليس مرجعا ذاتيا في البلاغة ولكنه يرجع للقائمين عليها. وقد حاول د.عبد العزيز حمودة معالجة هذا القصور بالمزج بين نظرية النظم والنظرية اللغوية الأدبية النقدية، ولكن أخذ عليه عدم تعرضه لبلاغة القرآن الكريم. اتهام باطل يُتّهم كتاب (الإعجاز والبلاغة النّبويّة) للمرحوم مصطفى صادق الرافعي بأنَّه إنشائي بطبعه، لم يضف شيئًا في مدار الإعجاز البياني، إذ ليس له من الإعجاز إلاّ عنوانه! هذا اتهام باطل فقد أضاف إلى قضية الإعجاز جوانب مهمة منها: حديثه عن الإعجاز الصوتي باستفاضة، كما تحدث عن التناسق والتناسب اللفظي والمعنوي. برأيك كيف نُعيد للبلاغة العربيّة دورها الرِّيادي في خدمة النَّص سواء كان شعرًا أو نثرًا؟ يتم هذا بتتبع أصول كل النظريات البلاغية والنقدية، والنظر في النظريات الحديثة. ثم إعداد نظرية متكاملة مستقاة من النظريات السابقة تكون ملائمة للعصر وتلبي تطلعات الناس في هذا العصر. هدم المقدس طه حسين تبنى نظريّة (الشك) في الشعر الجاهلي، وعبدالله الغذامي تبنى (موت) المؤلف، وآخرون تبنّوا موت البلاغة. السؤال: ما المشترك بين هذه التبنّيات؟ المشترك بين هذه النظريات هو هدم التراث وهدم كل مقدس، فنظرية الشك في الشعر الجاهلي بما فيه من شواهد للنحو واللغة والمعاجم والبلاغة، يؤدي إلى الشك في هذه العلوم نفسها وهي متصلة اتصالا مباشرا بالقرآن الكريم وعلومه. وموت المؤلف يؤدي إلى المساواة بين جميع النصوص بما فيها القرآن الكريم والحديث النبوي، وهذا يذهب عن القرآن الكريم صفة القدسية أو الإعجاز، وموت البلاغة يؤدي إلى تفريغ العقول من تراثها السابق وعدم اتصالها بأهم العلوم المتصلة بالقرآن الكريم والمتكفلة بإبراز سر إعجازه وهو علم البلاغة.