حادث يوم الأربعاء الماضي، وما سبقه من حوادث لن ينساها كثير من الناس والذين روعوا بتلك الحوادث المشينة، لأن ما نتج عنها لم يكن ضرره قاصراً على المقصودين بها ابتداء بل تعدى إلى أناس لا علاقة لهم بهذا الأمر، ومهما تكن الدوافع وراء تلك الحوادث، فإن الناظر في انطباعات المجتمع يرى شبه إجماع منهم على نبذ هذه الأمور التي تستهدف الآمنين في بيوتهم، ويمكن استخلاص سبب استهجان المجتمع لذلك العمل في عدة نقاط: 1- أنه هتك لحرمة أنفس معصومة من أهل الإسلام. 2- أنه ترويع للآمنين في بيوتهم. 3- أنه افتئات على الحاكم الشرعي بتنفيذ واجبات الإمام المسلم في دولته. 4- أنه مخالف لمنهاج المصلحين على مدار التأريخ. ولكن السؤال الذي ينبغي طرحه وتداوله والبحث له عن جواب هو: ما السبب الذي أوقع مثل ذلك الحادث، لأن الشجب والاستنكار يستطيعه كل شخص بل هو مما يجمع عليه الصغير والكبير، بل وتلتقي فيه التوجهات والمشارب معها كانت متباعدة لأنه أسهل وسيلة لإبعاد التهمة عن أي شخص، ومع كثرة من تلكم أو كتب أو حاضر أو خطب حول هذا الموضوع إلا أن غالب كلامهم لا يبتعد عن كونه يصب فيما ذكرناه آنفا من الاستنكار فقط، مما يجعل الحاجة داعية إلى ضرورة مناقشة الأهداف والدوافع لهذا العمل، والمكان هنا لا يسمح بالتفصيل في الحديث عن هذه الأمور، ولعلنا أن نناقش باقتضاب بعض تلك الدوافع التي سوغت لتلك الفئة ذلك العمل، لأن الحديث - كما أسلفت - في هذا الموضوع طويل ومتشعب، وهو في حاجة إلى مراجعة صادقة من أهل الاختصاص كل فيما يخصه، فالأمر ليس متعلقاً بشخص دون آخر أو جهة دون أخرى، ولا يمكن أن نلقي اللوم على فئة من المجتمع لنصفهم بالتقصير والإهمال، وكأنها هي المتسببة وحدها لأن هذا جور وظلم. ويمكن تلخيص تلك الدوافع في الأمور التالية: 1- ازدراء أهل العلم: وهذا الأمر من أهم الأمور التي أوجدت هذا الانحراف الفكري لدى أولئك، فسبب تقليلهم من شأن العلماء واتهامهم أحياناً بأنهم علماء سلطان أو ادعاء أنهم لا يعلمون واقع المجتمع لأنهم لا يعيشون مع قضايا الأمة، وإنما يعالجون أموراً ماضية وفتاوى فردية، ومما زاد تثبيت هذا الأمر في قلوبهم أنهم تلقوه من أناس هم محل القدوة عندهم، فترتب على ذلك أن يوصف كل عالم لا يوافق قوله ما يسعون إليه بتلك الأوصاف السابقة، فصار العلماء الذين يقبل كلامهم لدى تلك الفئة قليلين جداً. 2- الجهل: وهذا الأمر يقود إلى كل المصائب، ولعلي أن أوضح كيف أن الجهل بالأمور التالية قاد هؤلاء إلى تلك الأفعال الشنيعة: أ- الانحراف في مفهوم وجوب طاعة ولي الأمر، وتحريم الخروج عليه ما لم يعلن الكفر البواح الذي فيه برهان، والإتيان بشبه منها أن الخروج على الحاكم يعني مقاتلته ورفع السلاح عليه، وهذا ما لم يفعله أحد، وكأن الخروج على الحاكم مقصور على هذه الصورة فقط، وإنما حدث هذا الفهم بسبب قصور العلم الشرعي والتربية التي خضع لها أولئك في صفوف الجماعات السرية مع أن مثل هذه القاعدة ينبغي أن تلقن لكل طالب حتى في مجال التعليم العام لأنها من أهم الثوابت التي يسير بها الأمن في الإسلام، ومن أهم العوامل التي توأد بها الفتن. أما الاحتجاج بالمصلحة، فهو باب موصد أمامهم بنصوص الطاعة لأولياء الأمور، فليس لكائن من كان ادعاء مصلحة بالافتئات على الوالي والقيام بصلاحياته وواجباته بدون استنابة منه، أو توكيل، فالدين الإسلامي قد حرم قتل الأنفس المعصومة، وحرم ترويع الآمنين، وكل هذه الأمور معلوم يقينا بأن بعضها عند تلك الانفجارات سيقع، وواحدة منها كافية لأن تمنع الشخص عن الإقدام على مثل تلك الأمور. ب- ومن الثوابت المعلومة في دين الإسلام المحافظة على الضرورات الخمس التي تستقيم بها حياة الناس، وأنه لا يجوز التعرض لها، ولا المساس بها، وهذا الأصل العظيم يمنع المرء من الإقدام على الضرر بإحدى هذه الضرورات ولكن لما غاب العلم الشرعي عن قلوب أولئك لم يلقوا بالا لهذا الأصل. ج- الانحراف في التوجه وفي فهم النصوص الشرعية وإعمالها، وهذا يظهر جليا في إعطاء خصائص ولاة الأمور لرؤسائهم وعلمائهم في الحكم والتنفيذ والسمع والطاعة والخطأ والصواب في الرأي والاجتهاد، وهذه قاعدة الانطلاق للإتيان بكل الجرائم بعد أن نفض يده بالكامل وتخلص من الولاء والثقة بالعلماء والحكام، ومن المعلوم في قواعد الشريعة أن بعض واجبات الدين ليس تنفيذها من اختصاص الأفراد تحت أي ذريعة كادعاء إزالة منكر أو الدفاع عن الإسلام أو إبرام السلم والحرب أو عقد المعاهدة ونقضها، فجميع هذه الأمور إنما هي من اختصاص ولاة الأمر، مثل مسألة الدماء، فكما لم يكن للأفراد القتل لأحد حدا أو كفرا أو تعزيرا، لأنها من واجبات الإمام والأفراد غير مكفلين بهذا الأمر لم يكن له البت في الصور السابقة. 3- إهمال الأسرة: الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فالبيت الذي خرج منه أفراد له دور كبير في ضياع النشء وانحرافهم الفكري، فالأب وكل الله إليه تنشئة الأبناء، بل وجعله أمانة في عنقه سيسأل عنها يوم القيامة، فلما أهمل الأب ابنه في مراحل اندفاعه وتركه يختار الطريق الذي يهواه، بعد أن تشبع بمؤثرات خارجية تتجاذبه من كل جانب أوصل ذلك الإهمال الابن إلى مرحلة لم يستطع الأب فيها السيطرة على ابنه، فكان للأسرة كاملة أن تعيد النظر في الطريقة المتبعة مع أبنائها، وأنها هي التي تصنع الرجال. 4- التساهل والتعاطف مع تلك الصور: لعلي هنا أن أركز على نقطة هي في غاية الأهمية لأنها تتعلق بالمجتمع على اختلاف فئاته، فمثل هذه الأفكار تبدأ صغيرة، ويمكن علاجها في مهدها، ولكن من منطلق الإهمال من مسؤول أو التعاطف من رجل تربية أو عدم التنبيه من عالم تكبر هذه الأفكار إلى درجة لا يستطيع المجتمع علاجها إلا بجهد وعنت. إننا في حاجة ماسة أن نواجه أنفسنا أولا، ونواجه الآخرين ثانيا فنقول : للمحسن أحسنت، وللمخطئ أخطأت وأن نعلم أن مبدأ المجاملة أحيانا والتعاطف أحيانا أخرى يؤدي بالأمة إلى أمور تعود عليها جميعا بالخلل، ويحسن أن أذكر هنا بكيفية تعامل علي بن أبي طالب مع أولئك القوم الذين غلوا فيه، وكيف عاجل وأد فتنة في مهدها بطريقة سريعة، ولم يتركها حتى تستفحل، ثم لا يستطيع علاجها، وكل ذلك يدعونا إلى ضرورة الجد والمسارعة في معالجة بدايات الانحراف في المجتمع، حتى لا يؤدي التهاون فيها إلى وقوع ضرر أكبر. وأخيراً أقول: :إنه يجب على أهل الاختصاص من العلماء والمسؤولين اعتماد المنهج العلمي لدراسة هذه الظاهرة وغيرها من الفتن التي اشرأبت أعناقها، والتي هي نتائج ومحصلات عن مناهج وأفكار دخيلة، والبحث عن الحقيقة يتطلب الأهلية لفرز واستقراء الأحوال، وحشد العلل والمسوغات لكل ظاهرة لتتم مناقشتها وتحليلها ليسهم ذلك في علاج تام لهذه المشكلة.