في مثل هذا اليوم، 14 صفر، من عام 16 بعد الهجرة، فتح المسلمون المدائن عاصمة الفرس، تلك المدينة الساحرة التي طالما تمنوا فتحها فبعد أن فتحوا دمشق، وقضوا على جحافل الروم في الشام، اتجه أبو عبيدة بن الجراح على رأس جيشه إلى حمص لفتحها ليحكم قبضة المسلمين على الشام. وأراد الخليفة عمر بن الخطاب أن يقود جيشًا آخر إلى العراق ليقضي على نفوذ الفرس بها، بعد أن بدأت بوادر الضعف والانهيار تدب في إمبراطوريتهم، ولكن أصحابه أشاروا عليه أن يبقى في المدينة، ويؤمّر على الجيش سعد بن أبي وقاص. وخرج سعد من المدينة إلى العراق في أربعة آلاف فارس، وتوالت انتصارات المسلمين على الفرس في القادسية ثم بُهْرَسِير التي كانت ضاحية للمدائن على الضفة الغربية لدجلة، لا يفصلها عن المدائن سوى النهر، ولا تبعد عن بغداد أكثر من عشرين ميلا إلى الجنوب. بعد فتح بهرسير أراد سعد أن يعبر بجنوده إلى المدائن، ولكنه وجد أن الفرس قد أخذوا السفن كلها حتى يمنعوهم من العبور إليهم. جمع سعد جنوده وأخبرهم بعزمه على عبور دجلة إلى المدائن، وأسرع المسلمون يعبرون النهر بخيولهم حتى امتلأت صفحة النهر بالخيل والفرسان والدواب، فلما رأى الفرس المسلمين وقد خاضوا النهر إليهم راحوا يرشقونهم بالسهام والرماح، ويقضوا عليهم قبل أن يصلوا إلى الشاطئ. ولكن قائد المسلمين أمر رجاله أن يطلقوا رماحهم إلى عيون الخيول، فتعم الفوضى بين صفوف الفرس، ويفروا أمام المسلمين، ويطاردهم فرسان المسلمين. ودخل المسلمون المدائن فاتحين منتصرين، وغنموا ما تحويه من نفائس وذخائر، بعد أن فر كسرى وجنوده حاملين ما استطاعوا حمله من الأموال والنفائس والأمتعة. ودخل سعد القصر الأبيض بالمدائن، وانتهى إلى إيوان كسرى، وهو يقرأ قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } الدخان 25-28 ثم صلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن، كما صلى من قبلُ في قصر كسرى الآخر في بهرسير. وعرض المسلمون على أهل المدائن: (إما الإسلام؛ فإن أسلمتم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم). فأجابوهم إلى الجزية. وأرسل سعد السرايا في إثر كسرى، فلحق بهم بعض المسلمين، فقتلوا عددًا كبيرًا منهم، وفر الباقون، واستولى المسلمون على ما معهم من الغنائم والأسلاب، وكان فيها ملابس كسرى وتاجه وسيفه وحليه. وانتشر المسلمون في المدائن تلك المدينة الساحرة، وأخذوا يجمعون المغانم الكثيرة وأرسلوها إلى عمر بن الخطاب، ومن ضمنها سيف كسرى وأساوره، فلما وضعت بين يديه نظر إليها متعجبًا وهو يقول: إن أقوامًا أدّوا هذا لَذَوو أمانة.. فرد عليه علي بن أبي طالب: إنك تعففتَ فعفّت الرعية. وكان في القوم سراقة بن مالك الذي وعده النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الهجرة أنه سيلبس سواري كسرى، فتناول عمر السوارين وألقاهما إليه، فوضعهما سراقة في يديه، لتتحقق بشارة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووعده لسراقة. فلما رآهما عمر في يدي سراقة قال: (الحمد لله.. سوارا كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك). وهكذا سقطت المدائن عاصمة الفرس العريقة في أيدي المسلمين فكان سقوطها إيذانا بانهيار إمبراطورية الفرس كلها، وبداية صفحة جديدة من تاريخ فارس، بعد أن بادر كثير من أهالي تلك البلاد إلى الدخول في الإسلام؛ لما وجدوه من الحرية والعدل وحسن المعاملة، مما ساعد على المزيد من الفتوحات الإسلامية في بلاد المشرق.