المحاضر الدكتور محمد أبوبكر حميد يعتبر بحق الأمين على تراث باكثير منذ 25 عاما، يحاضر فيه ويكتب عنه في كل مكان عشرات من الدراسات والكتب، حتى أصبح مرجعاً للباحثين والدارسين في أدب باكثير في العالم العربي والإسلامي، وقد أصدر عدداً من مسرحيات باكثير المجهولة طبعتها مكتبة مصر، ويعد الآن للنشر ما تبقى من أعمال باكثير المخطوطة، وفي مقدمتها أعماله الشعرية الكاملة التي تكاد تصل إلى ألف صفحة، إذ لم يصدر لباكثير ديوان في حياته، وأعلن د. حميد مؤخراً ان صدور ديوان باكثير كاملاً هو أفضل ما يمكن أن يقدم وفاء لهذا الأديب في الذكرى ال35 لوفاته في نوفمبر 2004م إن شاء الله. في اطار هذه الجهود تجيء محاضرة الدكتور محمد أبوبكر حميد بفرع رابطة الأدب الإسلامي العالمية بعنوان (ريادة على أحمد باكثير للأدب الإسلامي وتطبيقاته) التي أثارت شجونا وجدلاً وتساؤلات، فالشجون أثارتها أسئلة الحضور عن ما اصطلح على تسميته (مأساة باكثير)، وملابسات الحرب الطاحنة التي شنها عليه اليسار الماركسي في مصر، وانتهت بموته مقهوراً في 10-11- 1969م. والجدل كان حول وسائل باكثير الفنية ومنهجه المتفرد في (أسلمة) الموضوعات البعيدة عن تاريخ العرب والمسلمين، في سبيل ما اعتبره المحاضر وسيلة باكثير للعبور بالأدب العربي والإسلامي للعالمية . أما التساؤلات فكانت عن المرحلة التي وصل إليها المحاضر في اعداد ما تبقى من أعمال باكثير للنشر. انطلاقة الالتزام تتبع المحاضر بذور الاتجاه الإسلامي عند باكثير منذ صباه في موطنه الأصلي حضرموت (باليمن)، فقد تأثر باكثير بالمدرسة السلفية المستنيرة في تلك المرحلة الباكرة من حياته، وأدى ذلك الى اصطدامه مع بعض شيوخ عصره. تأسس باكثير فكرياً على مدرسة (العروة الوثقى)، واعجب بجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده من خلال تلميذيهما السيد محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، كانت مجلتا (المنار) لرشيد رضا و(الفتح) لمحب الدين الخطيب تصلانه إلى حضرموت، وقد نشر في مجلة (الفتح) عدة قصائد، وعُرف في مصر قبل وصوله إليها. وكان محمد رشيد رضا هو الذي هيأ له سبل الوصول إلى مصر وشجعه عليه، فوصلها سنة 1934م بعد أن أمضى سنة في عدن، وسنة في الحجاز التقى فيها بالملك عبدالعزيز، وله معه تاريخ طويل ليس هذا مكان الحديث عنه. وقال المحاضر ان أول عمل مسرحي كتبه باكثير كان في المملكة، بالطائف وهو مسرحية (همام أو في بلاد الاحقاف) الشعرية، وهي تصوير واقعي تقريبا لحياته في حضرموت وما حدث له مع بني قومه. وتعتبر هذه المسرحية أول عمل أدبي مطبوع في كتاب يصدر لباكثير، يعبر عن خطه الإسلامي والتزامه العقدي، وقد صدَّر هذه المسرحية بالآية الكريمة { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ}. توظيف التاريخ والأسطورة ومنذ ذلك التاريخ التزم باكثير بتصدير أعماله الأدبية بآية قرآنية حتى ولو لم يكن في هذا العمل ذكر للإسلام وتدور أحداثه قبل الإسلام. وهنا يكمن سر نوع الالتزام الإسلامي الذي يمثله باكثير ويمكن توصيفه في جانبين: أولهما: التعبير غير المباشر عن المضمون الإسلامي، وهو جانب في غاية الأهمية، وقد حذر باكثير الكُتّاب الإسلاميين وكل كاتب صاحب رسالة من أن يطغى عليه حماسه لدعوته فينسى فنه، وقال في كتابه (فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية): (ينبغي - للكاتب الداعية - أن يحرص الحرص كله على سلامة عمله من الوجهة الفنية، وأن يدرك ان ذلك هو السبب الوحيد لجعل الرسالة التي ينطوي عليها بليغة التأثير في الجمهور الذي يشاهده). ثانيهما: يرى باكثير ان الموضوعات المستمدة من التاريخ والاسطورة تعين الكاتب على تحقيق غايته أكثر مما تعينه أحداث الجيل المعاصر. ويقول باكثير في هذا الصدد: (ولذلك أغرمت بالموضوعات الاسطورية، لأن الأساطير أغنى من التاريخ في هذا المعنى وأرحب أفقاً وأكثر انطلاقاً من القيود الزمنية والظروف المحلية، فالحادث المعاصر إذا تقادم يصير تاريخا والتاريخ إذا تقادم يصير اسطورة). الطريق إلى العالمية لكن (الرؤية الخاصة) التي يضيفها باكثير لفكرة الأدب الإسلامي، هي انه يرى ان الكاتب الإسلامي أو العربي عموما سيكون أقدر على توصيل (المضمون الجديد) عندما يتخذ من تاريخ وأساطير الشعوب والأمم الأخرى، البعيدة كل البعد عن الإسلام، موضوعات يعبر فيها عن (المضمون الإسلامي)، لأن هذه الشعوب عندما تتلقى هذا العمل المستمد شكله الفني من تاريخها وتراثها فلن تجد صعوبة في فهمه، وبالتالي فهي عندما تتأثر به تكون قد تأثرت بطريقة غير مباشرة بالمضمون الجديد الذي حمله لها هذا الشكل الفني المعروف لديها. ويرى باكثير أن الأديب العربي أو الإسلامي - وهما مترادفان عنده - عندما يفعل ذلك يكون قد صنع جسر عبور بأدبه إلى العالمية، واستطاع أن يقدم لهم فكر أمته على أطباق من حضارتهم وتاريخهم. وقال المحاضر ان مصادر أعمال باكثير متعددة، فهي من الحياة المعاصرة والتاريخ الإسلامي، وتاريخ حضارات ما قبل الإسلام، وعصر النهضة الأوروبية، لكنه يقرر ان أنجح أعمال باكثير في التعبير عن التصور الإسلامي هي تلك الأعمال تكون موضوعاتها بعيدة كل البعد عن تاريخ العرب والإسلام، مثل مسرحية (مأساة أوديب) من الاساطير الاغريقية، ومسرحيات (اخناتون ونفرتيتي) و(اوزوريس) و(الفرعون الموعود) و(الفلاح الفصيح) من التاريخ والأساطير الفرعونية، ومسرحية (فاوست الجديد) من أساطير عصر النهضة الأوروبية، وقد ضرب د. حميد المثل بثلاث مسرحيات . التفسير الخاص للأديب مسرحية (اخناتون ونفرتيتي) 1940م، التي صدّرها باكثير بالآية الكريمة { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} ، وعلى ضوء هذه الآية الكريمة حاول باكثير ان يفسر سيرة حياة اخناتون تفسيراً إسلامياً دون أن ترد في العمل الذي تدور احداثه في إطارها التاريخي قبل الإسلام أية إشارة مباشرة للإسلام اللهم، إلا المعنى الذي يخرج به القارئ أو المشاهد وتوافقه مع الآية الكريمة. وقد وجد باكثير في دعوته اخناتون للتوحيد اتفاقا مع الإسلام، لكن الأسلوب الذي اتبعه اخناتون في نشر دعوته الذي سماه (دعوة الحب والسلام) كان اسلوبا سلبيا لا يتفق مع الإسلام، فاخناتون كان يرفض استخدام القوة حتى لو كانت دفاعا عن الحق واقرارا للسلام. والتفسير الإسلامي الذي خرج باكثير به من صياغته الجديدة لتاريخ حياة اخناتون يتمثل في ان هزيمة اخناتون وتشتت ملكه كان بسبب اصراره على عدم محاربة الخارجين عنه وتركه لأراضي بلاده ينتزعها منه المعتدون قطعة قطعة دون ان يهب مدافعا عن أرضه أو حاميا لعقيدته. على هذه المفارقة الدرامية اقام باكثير عمله، فكان اخناتون شديد القرب من الإسلام في دعوته للتوحيد لكنه كان بعيداً عن منهج الإسلام في فهمه لدعوة الحب والسلام، ومن هنا يرجع باكثير العيب في منهج اخناتون الذي هو اجتهاده الشخصي لا في عقيدته وهي وحي السماء، فدعوة الحق لا تستغني عن الدفاع بسيف العدل، وقد أدرك اخناتون هذه الحقيقة في آخر المسرحية ولكن بعد أن وقعت المأساة وفات الأوان. أسلمة الشكل الفني ويتساءل المحاضر للتشويق: إذا كان باكثير قد وجد في تاريخ اخناتون ما يعينه على تفسيرها تفسيرا إسلاميا كما رأينا، فما الذي فعله باسطورة اوديب وهي اغريقية وثنية ليقدمها برؤية إسلامية؟ يقول الدكتور المحاضر اسطورة اوديب الاغريقية معروفة في آداب الشعوب جميعاً، وتناولها عشرات الأدباء في أدبنا العربي، ويعتبر توقيف الحكيم وباكثير أهم من تناولوها. تنص الاسطورة الوثنية ان معبد ابولون الوثني الاغريقي تنبأ للملك لايوس ملك طيبة بأن سيولد له غلام يقتل أباه ويتزوج امه، ثم تدور الأحداث جميعا لتتحقق هذه النبوءة باعتبارها من وحي الآلهة، على نحو ما نعرف في مسرحية سوفوكليس الشهيرة. ويتساءل المحاضر مرة أخرى: ما الذي فعله باكثير في اعادة صياغته لهذه الاسطورة بعنوان (مأساة أوديب) 1949م مع التصور الإسلامي الذي ينطلق منه؟ يقول: ان باكثير صدّر هذه المسرحية بالآية الكريمة {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثم قام بتجريدها من عناصرها الوثنية وجعل النبوءة من صنع الإنسان حين يتبع خطوات الشيطان، ونزه القدرة الإلهية من الأمر بالسوء والفحشاء. وهكذا جعل باكثير النبوءة فرية اختلقها الكاهن الأكبر برشوة أخذها من الملك بوليب ملك كورنث، الذي كان عقيماً، فلما بلغه ان جوكاستا زوجة الملك لايوس قد حملت اكلت الغيرة قلبه، وخشي ان ينتقل ملكه إلى أسرة جاره الملك لايوس،ثم كان الاتفاق بين الملك بوليب والكاهن لاختلاق تلك النبوءة الكاذبة التي تقول بأن الملك لايوس سينجب ولدا يقتل أباه ويتزوج أمه ليقوم لايوس بالتخلص منه. ولكي يوهم الكاهن الناس بصدق نبوءته أوعز إلى الخادم الذي أمره لايوس بقتل الطفل ان لا يقتله بل يسلمه إلى راع من كورنث يذهب به إلى الملك بوليب. وظل الكاهن يقود خيوط المؤامرة منذ طفولة أوديب حتى تحققت كما أراد لها ان تكون عبر مجموعة من الأحداث والملابسات التي يطول شرحها، فكانت تلك هي خطوات الشيطان التي اتبعها الكاهن. وهكذا أصبحت اسطورة اوديب ربما لأول مرة أقرب للعقل والمنطق، وتدور أحداثها في عالم البشر بعد أن هبط بها باكثير من برجها الاسطوري إلى دنيا الواقع والمعقول. الانتصار على الشيطان والنموذج الثالث الذي تعرض له الدكتور محمد أبوبكر حمد في محاضرته هو مسرحية (فاوست الجديد) 1968م، وهي من أواخر أعمال باكثير، موضوعها من أساطير عصر النهضة الأوروبية وأول من كتبها للمسرح الإنجليزي كريستوفر مارلو في القرن السادس عشر، ولكن مسرحية (فاوست) للكاتب الألماني جوته هي أشهر الأعمال على الاطلاق، ومنها استوحى باكثير عمله. سار باكثير في مسرحية (فاوست الجديد) على منهجه في التعبير عن فكرة إسلامية بشكل غير مباشر من خلال التعامل مع الاسطورة البعيدة عن العروبة نسبا والاسلام عقيدة - على نحو ما فعل في (اخناتون ونفرتيتي) و(مأساة أوديب) - ورسم شخصية فاوست الجديد في إطار الآية الكريمة التي صدّر بها مسرحيته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} فاطر 28، دون اخلال بأجوائها التاريخية وبنية هيكلها الأساسية، فنجده يترك (فاوست الجديد) في بيئته الأوروبية المسيحية، ويحافظ على الخطوط الرئيسية في البناء الفني لفاوست جوته، ولم يحدث من التغيير والحذف إلا ما يخدم تحقيق أهداف المضمون الذي يريد أن يصبه في وعائها الجديد. والحقيقة ان باكثير وجد في البيئة الأساسية لفاوست جوته ما يتفق مع الفكرة الإسلامية للعلاقة بين الله والشيطان، وبين الإنسان والشيطان، وأثر ذلك على الصلة بين الله والإنسان. لقد صنع باكثير من فاوست شخصية إنسانية واقعية بعد أن استبعد العناصر الخرافية والاسطورية منها، لهذا بدأ فاوست باكثير مؤمنا بالله لكنه ليس ذلك الايمان الذي يجعله يقاوم اغراء الشهوة، كان حبه لمرجريت نقطة ضعفه الأساسية التي نفذ منها الشيطان إليه، ولكن في الوقت نفسه كان طموحه في زيادة كشوفاته العلمية والتوسع فيها عاملا آخر جعله يطمع في الاتفاق مع الشيطان فيبيعه روحه مقابل ان ينفذ له كل رغباته، كما هو معروف في الاسطورة الاصلية. وبعد ان يعب فاوست من الشهوات والنساء اللاتي يقدمهن له الشيطان يفيق إلى نفسه. حيث يكتشف فاوست ان الشيطان لم يقدم له إلا المتع الوهمية الزائلة والزائفة من جهة، وعرقلة مشاريعه العلمية التي تخدم البشرية من جهة أخرى، فيمضي متجاوزا الشيطان معرضا عنه.. منطلقاً نحو اهدافه السامية للوصول إلى ذلك الكشف الخطير الذي يحول الصحاري إلى جنان وغابات ومروج. وهو أمر يرفضه الشيطان ويحاول ان يثنيه عنه، ولكن هيهات. يصل فاوست باكثير إلى قمة امتلاكه لإرادته عندما يرفض (هيلين) البارعة الجمال التي قامت من أجلها حرب طروادة، ويدخل فاوست باكثير في أعنف صراع قادته شخصية مسرحية مع النفس الأمارة بالسوء. وبالفعل يأتيه الشيطان بهيلين متجردة ترقص له، وتراوده عن نفسه بأقوى أسلحة الجمال الفتان فيستعصم ويصرخ وهو يبعدها عن نفسه: (الله.. الله.. لقد رأيت نور الله) فكان ذلك برهان ربه، وفي هذا استلهام غير مباشر للقيم الإيمانية والخلقية في القصص القرآني، فقد سار باكثير بفاوست وهيلين في خط درامي مطابق لقصة يوسف مع امرأة العزيز، حين لا يجد الشيطان حيلة إغواء للرجل أقوى ولا أشد من جسد المرأة الجميلة التي لا منقذ منها للبطل إلا رؤية برهان ربه. ويصل إلى مرحلة من النقاء والشفافية إلى درجة جمع فيها الأبد كله في لحظة واحدة، وصفها بقوله: (لا استطيع أن اصفها إلا انها كانت ومضة خاطفة، ووجدتني وسط حلقة من النور تدور بسرعة هائلة، وهي تتسع وتتسع وتتسع حتى احتضنت الوجود كله!). هنا يقف فاوست الجديد على قمة إيمانه ويعلن غاية وجوده: (أن أعرف الله وأحبه وأعبده).. (أن أعرفه عن طريق العلم ليتسنى للناس جميعاً أن يعرفوه فيعيشوا في حب وسلام). ويبقى التفسير الجديد الذي يقدمه باكثير لفاوست أن فاوست عندما انصرف عن الشيطان وفقه الله لمزيد من العلم بجهوده الذاتية، فأدى اتساع علمه إلى عمق في ايمانه بالله، وحقق له ما يصبو إليه من كشوف علمية تخدم البشرية وعفا عنه وغفر له. ويعلق المحاضر على صياغة باكثير لهذه المسرحيات الثلاث متحدثاً عن علاقة الأديب الفنان بالتاريخ والاسطورة مبينا الفرق بينها وبين علاقة المؤرخ. فيقول: لقد وضع باكثير (رؤية جديدة) في كل عمل من هذه الأعمال، هذه الرؤية هي التفسير المطلوب من كل أديب يتعامل مع التاريخ والاسطورة بشكل يتضح فيه الفرق بين وظيفة المؤرخ الذي يكتب الأحداث كما وقعت بالفعل والأديب الفنان الذي يختار من أحداث التاريخ وموضوعات الأساطير فيعيد صياغتها في شكل فني جديد يخدم (الرؤية الخاصة) التي يريد التعبير عنها من خلال هذا الشكل. ويستطرد د. حميد فيقول لتأكيد فكرته فيقول: إننا إذا نظرنا إلى المسرحيات نجد ان (الرؤية الخاصة) أو (التفسير الجديد) الذي وضعه باكثير لكل عمل يكون اجابة على سؤال مهم يثيره باكثير قبل التعامل مع مادته. ففي حال (اخناتون) يتساءل: لماذا فشل اخناتون؟ والجواب: ان العيب كان في منهجه لا في عقيدته. وفي (أوديب) يتساءل: هل من المعقول ان تكون تلك النبوءة الآثمة من صنع القدرة الآلهية؟ والجواب: لا.. انها من صنع الإنسان حيث يتبع خطوات الشيطان. وفي حال (فاوست) يسأل: هل يستطيع الإنسان ان يغلب الشيطان؟ فيكون الجواب: نعم إذا استكمل ايمانه بالل،ه وأيقن ان النعيم الحقيقي في معرفة الله، والعلم كله عند الله وبقدرته، وهذا ما وصل إليه فاوست باكثير، وبهذا يكون كل جواب لسؤال من هذه الأسئلة هو (التفسير الإسلامي) الذي خرج به باكثير من اعادة صياغة هذه الموضوعات البعيدة كل البعد عن الإسلام وتاريخه وتراثه وحضارته. هذه هي خلاصة رؤية باكثير ومفهومه للأدب الإسلامي، وهي رؤية متقدمة سبقت ظهور مصطلح الأدب الإسلامي بأكثر من ثلاثة عقود. المأساة والانتصار ورغم طول المحاضرة إلا ان تنوع وسائل عرض المحاضر لمادته وحماس الحضور لموضوعها جعلهم يستمرون طويلاً في المناقشة بعدها. فقد تحولت الأسئلة بعد المحاضرة إلى حلقة نقاش عامة عن أدب باكثير وحياته ومأساة وفاته، وذكر الدكتور حميد في اجابة عن احد الاسئلة المتكررة عن ماساة باكثير والحرب التي شنها عليه اليسار الماركسي المتنفذ آنذاك في الأجهزة الثقافية في مصر، ذكر ان الأستاذ أحمد حمروش الشيوعي المعروف أبعد أعمال باكثير من العرض على المسرح القومي بعد توليه إدارته، والكاتب الماركسي الأستاذ محمود أمين العالم دشن الحملة الأخيرة بعد صدور مسرحية (حبل الغسيل) لباكثير سنة 1966م، وحاول الزج به في تهمة سياسية باسم الدين. وقد رد عليه باكثير بأنه مؤمن بالله ويعتز بدينه، وان مصر مسلمة وتاريخها النضالي تاريخ إسلامي. وان مسرحياته التي تهاجم الاستعمار وتحض على الثورة عليه وتدعو لقيام حكم وطني كتبها جميعا في وجود الاستعمار، وهو بهذا أفضل من الذين يزايدون باسم الوطنية وباسم الثورة وهم تحت حمايتها. دارت رحى هذه المعركة - كما يقول المحاضر - على صفحات مجلة المصور سنة 1966م، ثم تعاورت باكثير الأفلام الحمراء في بعض الصحف والمجلات وحجبت أعماله وسحبت الأضواء منه، وتم تجميده وظيفياً، فلزم بيته يكتب للأجيال المقبلة الأعمال التي يقوم الدكتور محمد أبوبكر حميد بنشرها الآن، حيث يبعث فيها باكثير مجدداً قوياً ومنتصراً يتردد اسمه في كل مكان، في حين ماتت أفكار الذين حاربوه، وبدأ العدم والنسيان يحصدهم مهزومين واحداً تلو الآخر.