حينما يودع المرء أحبابه تتحشرج الكلمات في داخله تأبى الخروج، فكيف بمن يودِّع أغلاهم وأقربهم إلى قلبه؟ كيف بمن يودِّع أمه التي بذلت في سبيل سعادتنا كل شيء وأدخلت البسمة والفرحة والسرور على قلوبنا بذلت لنا كل شيء ولم تبخل علينا بشيء؟ كيف ستكون المشاعر والخلجات؟ كيف ستكتب كلمات الرثاء؟ كيف ستصطف المفردات والألفاظ كيف؟ إنها في الحقيقة لن تعبر بشيء مما لها في الخاطر - رحمها الله - وصدق قول من قال: «إن المشاعر الإنسانية أعظم من أن يحويها مداد أو يعبر عنها إنسان». والشاعر حين قال: ما حيلة العبد والأقدار جاريةٌ العمر يوهب والأيام تنتهبُ فبين يدي قلم شاحب أصفر لا يقوى القيام وحبره حبر أسود سيال وبالدمع رقراق، يكتب كلمات امتزجت بالعبرات وقد خرجت من أعماق أعماق قلبي المنكسر والمتصدع على فراقك يا أمي الغالية. رحمك الله يا أمي وأسكنك فسيح جناته وجعل مقرك في الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأوسع لك في قبرك مد بصرك وأنس وحشتك. أمي الغالية الحبيبة.. ماذا أقول وماذا سأكتب إنها كلمات ثكلى وهي تلك الكلمات التي ستكتب، فمصيبتنا فيك كبيرة وفجيعتنا بك والله لعظيمة. الله أكبر كم كانت مصيبتنا وكم بكينا ودمع العين ينحدرُ الدمع منسكب والقلب مستعر فالعين تبكي آسى والقلب يعتصرُ كل ركن من أركان بيتنا يفوح منه رائحتك، كل شيء يذكرنا بك، ألمحك في كل مكان، من بحر حنانك الواسع زودتني بالحب والحنان والأمن والعطاء، وكم غربت أحزاني خلف ابتسامتك ووجهك الوضاء. والآن استحال ذلك إلى ماضي جميل لا أذكره إلا بدمعة شوق وحزن تجر معها دموعاً من الألم. كم افتقدك يا أمي.. افتقد حنانك وعطفك وحبك الكبير لنا، أتعلمين - رحمك الله - ماذا كنت تعنين لي؟ أنت قلبي الذي ينبض والهواء الذي اتنفسه، أنت لي كل شيء، أنت باختصار حبي الأبدي السرمدي، والآن لم يبق لي إلا الذكريات.. إنا لله وإنا إليه راجعون. أحببتك يا أمي حباً لا يوصف وسأظل أحبك وأحبك حتى الممات ولن أنسى ذلك البيت الذي نظمتيه لي وجعلتيه خاصاً بي «يا روحي يا بعد روحي جعل روحي عنك ما تروحي» سأظل أذكره وأردده ما دام قلبي ينبض إلى آخر قطرة دم تجري من عروقي يا أمي كنت لنا نعم الأم الصالحة التي تحثنا على الخير والبر والمحافظة على الصلوات وتأمرنا بالبر والوصل والتسامح، كنت لي كالصديقة فأسراري هي أسرارك فبيننا كل شيء مشترك ولا مجال للأسرار. سموت كرامة وعلوت قدرا فمدحي قاصراً شعراً ونثرا أيا أمي فلا يكفيك حمدا ولو صغت المحامد فيك تترا ولست مكافئاً جزءاً يسيرا من الإحسان وإن كررت شكراً لقد ابتليت فصبرت وحمدت ورضيت بما كتبه الله وقدره لك، وكنت - رحمك الله - رحمة واسعة وأنت على سرير المرض تشحذين من همتنا وترفعين معنوياتنا وتشدين من أزرنا، ومع كل ما كنت تشعرين به من ألم ونصب كنت - رحمك الله - تدخلين الفرحة على قلوبنا بطرق عديدة، وعندما تتلاطم أمواج الحياة وتتراكم الأحزان على قلبي أجد أمي بالقرب مني واقفة في وسط الأمواج أبث تلك الأحزان لها ولها فقط عبر بوابة قلبها، تمد يدها ليدي لنكمل مشوار الحياة بكل صبر وإيمان، لقد كانت - رحمها الله - نوراً أسير على ضوئه أشق طريقي في الحياة، هي من جسَّدت لي معنى الحب والطيبة والقلب الكبير فأي أم كأمي..؟! رحلت عنا يا أمي ونحن أحوج ما نكون لك.. رحلت وجعلت خلفك مكاناً شاغراً في قلوبنا جميعاً، آه يا أمي فراقك حزن يتجدد في قلبي على مدى عمري لأنك في حياتي كل شيء نعم والله كل شيء. فقدت غالية بالحب تجمعنا يا شمعة فقدت يا زينة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تُدَّكر لكن عزاءنا الوحيد أننا نرجو لك برحمة أرحم الراحمين داراً خيراً من دارنا وجوار رحمن السماوات والأرض ورحيمهما وان انقطع لقاؤنا في الدنيا ففي الجنة نلقاك ان شاء الله يا أمي الحبيبة. مهما أكتب يا أمي - رحمك الله - فأنا أعلم علم اليقين أنها لن تفي بحقك ولن تعبِّر ولا بجزء بسيط مما يكنه القلب لك، كل كلمة في حقك عاجزة عن التعبير لكنها كلمات ومشاعر صادقة خرجت من قلب صادق أحبك حباً لا يوصف، فالحق والحق أقول ان ما حمله قلبي لك يا أمي من محبة كبيرة أعجز تمام العجز عن التعبير عنها ويبقى ما في القلب مخفي، ألهمنا الله الصبر بعد فراقك، كما أسأله أن يعيننا على العيش بدونك ما تبقى من عمرنا. يا نفسُ صبراً على الأحزان راضية بما قضى الربُّ لا سخط ولا كدر يا نفس صبراً على الأقدار حامدة مر القضاء من الرحمن مستطر صبراً والدي واخوتي، جدير بنا أن نتسلح بالصبر فموعدنا - إن شاء الله جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فالله يسكنها في الخلد منزلة فيها الفواكه والأشجار والثمر