الحمد لله جعل لكل بداية نهاية، وفي كل شيء عبرة وآية وصلى الله وسلم على محمد بن عبدالله بعثه الله بالرحمة والهداية، وبعد فإن موت العالم الرباني والفقيه العابد الإيماني فقد موجع وخطب مفزع، لأن حياة العالم العامل روض مربع في عالم ممحل محدب. وبالأمس القريب ودعت الأمة بأسرها ومملكة الوفاء علماً من أعلام الإيمان والقرآن، والدعوة ولإحسان إنه الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الفريان. رجل إيمان وعمل وحق وصبر، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً - عرف كرائم الآخرة فاشتراها.. وإذا تباع كريمة أو تشترى فسواك بائعها وأنت المشتري عرف مظان السعادة على حقيقتها فجاهد في ابتغائها وجاهد إلى أن تبلغ النفس عذرها وكن في اقتباس العلم طلاّع أنجد عرف كيف تكون الراحة في دنيا «أيامها نكد وكلها كبد وجمعها فرقة وصفوها كدر» فهجر عوائقها من الخمود والجمود.. ومن يهجر للذات نال المنى ومن أكب على اللذات عضَّ على اليد.. وصدق فيه وصف الشاعر المكلوم: ذاك الفريان والموِّحد ربه بالعلم يدعونا ناصح السلطان أمضى ثمانيناً ونيف فوقها في حسن أعمالٍ وحسن بيان جاب البلاد بطولها وبعرضها يدعو احتساباً في رضا المنان زار المدارس والمساجد داعياً ومؤسسات الأمن والطيران ومؤسس الحلقات حتى أينعت فحياته في خدمة القرآن كم حافظ ومعلِّم وأئمة قد خرجت في سائر البلدان تبكيك حلقات القرآن وأهلها قد كنت تاج الحفل والربان يا رب فاخلف شيخنا في أهله والمسلمين بسائر الأوطان فلقد كانت الدعوة إلى الله بالحسنى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على تعلم القرآن وتعليمه صديقه الصدوق وصبوحه والغبوق، حتى صار همه واهتمامه صهر فيه عمره وأيامه. ولسوف يبكيه الزمان فراقدا ولسوف يذكره بالدعاء - رحمه الله - ناشىء القرآن قائماً أو قاعداً. وإن أنسى لا أنسى بعض المواقف التي أثارت عجبي ولا يزال صداها في نفسي منذ زمن طويل، ومن ذلك * أن شيخنا الفريان - عليه رحمة الله - وهو علم من أعلام الزمان في الحفاوة بالقرآن - رأيته في أكثر من مرة عند ركوبه السيارة أول ما يعمل المبادرة إلى فتح إذاعة القرآن الكريم لسماع القرآن، وينزعج من اغلاقها وقد عاتبني مرة على اغلاقها ظناً مني بأنه متعب. وكما كان - رحمه الله - يتمنى إحلال المقرئين الشباب من خريجي حلقات التحفيظ محل القراء غيرهم وهذا نداء للمسؤولين في إذاعة القرآن. * إن الدعوة إلى الله كانت هماً يسري في عروق الشيخ - رحمه الله - وقد كان إماماً من أئمة الدعوة في زمانه. ولما عرضنا عليه - يوماً - فكرة جمع الطلاب في مكان واحد لتوفر الامكانات واستثمار الأوقات، أثناء زيارته لنا في مدينتنا - حوطة سدير - جزاه الله عنا خير الجزاء طلب أن يذهب إليهم في أماكنهم حتى لا يشق عليهم، وهكذا هي أخلاق العلماء. * في إحدى زيارته لنا في الحوطة.. ورغبنا منه البقاء، إلى المساء طلباً لاعتدال الجو فأخبرني بأنه متعب ويرغب في السفر فلما ودعناه، وسافر نال أثره، فإذا بنا نسمعه ينصح ويذكِّر في أحد مساجد الطريق السريع وأمام جمع ليس بالكثير!! فسبحان من أعظم رغبته في الخير وهداية الناس.. * وفي مجال لاحتساب «وهو مدرسة وكلية وأمة في رجل» وبينما كنت معه وكنت القائد للسيارة، وفي مدينتنا - حرسها الله - وأخذنا في حديث مشترك إذ وقع بصره مع كبر سنه - رحمه الله - على مجسم في أحد المتاجر فظنه أمراً منكراً وكنت أواصل السير، فعاتبني مع عدم علمي - لماذا لم ترجع؟ فقلت في نفسي: ماذا حدث للشيخ؟ فخاطبني أما شاهدت ما في المحل وعندها عدت لطلبه، حتى استبان الأمر.. فقلت بعدها: سبحان من ملأ قلبه بتعظيم حرماته.. * أما حبه للنصح والتوجيه ونفع المسلمين فأمر تناوله محبو الشيخ في مقالاتهم. وأذكر أنه لما صلىَّ في أحد مساجدنا في حوطة سدير وانصرف من الصلاة وذكر ووعظ بما تيسر كما و دأبه. أسدى توجيهات لإمام المسجد، وأثناء مروره على بعض مرافق المسجد أبدى بعض الاقتراحات والتعديلات لمصلحة المسجد والمصلين فرحمه الله - كم كان للنصيحة حفياً وللخير وأهله ولياً وفياً بدراً اختفا ومصباح خبا، ونجم أفل وانكفا، وكم مرة سمعته يردد قول الراثي: أهكذا البدر تخفى ضوءه الحفر ويفقد العلم لاعين ولا أثر خبت مصابيح كنا نستضيء بها وطوح للمغيب لأنجم الزهر فنحن على العلم نوح لثاكلات وقل لها والهف نفسي على أهل له قبر «فرحمه الله وجميع موتانا» - برحمته الواسعة.. كلمات حزينة كتبتها والعين تدمع والقلب يحزن والحمد لله على قضائه وقدره.. له ما أخذ وله ما أبقى. وفاءً وعرفاناً ودعاءً في زمن كسدت فيه سوق الأوفياء والكرماء، إلا من رحم من أهل الشهامة والرجولة والمروءة الذين بحمد الله تفتخر بهم هذه البلاد المحروسة.. وعلى رأسهم ولاتها الميامين وحفظهم الله. كما شوهد ذلك في جنازة الشيخ رحمه الله وكيف سالت الوجنات وضجت العبرات بالدعوات له. فنسأل الله الكريم له ولنا وللمسلمين والمسلمات المغفرة والرحمة وأن يبدله داراً خيراً من داره.. اللهم لا تحرمنا أجره ولاتفتنا بعده... آمين