جاء حين من الدهر كان الباحثون في تاريخ الأدب العربي يشعرون بشيء من الخجل المشوب بشيء من الحرج لخلو الشعر العربي من الملاحم، وكيف يكون لليونان ملاحم كالألياذة والأوديسة ويكون للروم ملاحمهم، وللهنود المهاباراتا ولا يوجد للعرب شيء يوازي هذه الشوامخ في الآداب الأخرى؟ ولكن لو عد الباحثون الأدب العربي أدبا واسعا متعدد الفروع ممتد الأجنحة لوضعوا أيديهم على ملحمة الفردوسي العظيمة التي تضارع ان لم تتفوق على بعض الملاحم الأخرى. نعم لقد صيغت ملحمة الفردوسي باللغة الفارسية، ولكن الجو الثقافي العربي والاسلامي كان يلوح في ثناياها، فلقد كانت اللغة العربية في ايران ذات نفوذ عظيم جبار لا يستطيع الافلات من نطاقها الساحر أحد, وكانت العربية لغة رسمية في بلاط السامانين الذين نشأ الفردوسي في احضانهم فكان المثقف الفارسي يومذاك مطلوبا منه الالمام التام بالثقافة العربية الاسلامية الى جانب الفارسية الحديثة التي كانت وليدة تخطو أولى خطواتها في عالم البيان والابداع في ايران. صحيح ان الفردوسي قد أنشد هذه الشاهنامة ليتغنى بأمجاد قومه الفرس في المقام الأول، وهذه رسالة جميع الملاحم عند كل الأمم, ولكن الفردوسي أشاد بدور الاسلام في اخراج ايران من الظلمات الى النور، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار الشاهنامة ملحمة اسلامية بوجه من الوجوه. ان ما يزعمه بعض الدارسين من خلو الشاهنامة من الالفاظ العربية بشكل مقصود ومتعمد زعم لا يؤيده الواقع والدراسة المتأنية لابداع الفردوسي الشعري, لأن القاموس العربي متجذر في اللغة الفارسية بحيث تعد أية محاولة لتخلص منه نوعا من العبث كان الفردوسي أول من يعرف مدى تلك العبثية. كنت والصديق العزيز المرحوم محمد صديق العوض خلال دراستنا في ايران نقضي اجمل الاماسي في مقاهي طهران الشعبية في ميدان الأميرة فوزية في طهران، وكان أمتع ما في تلك الجولات هو الجلوس في المقاهي الشعبية والاجتماع الى الرواة الشعبيين النقالين الذين كانوا يقرءون أشعار الشاهنامة بشكل تمثيلي بارع يصاحبه العزف على الآلات الموسيقية التي تصور اجواء البطولة والأبطال, فيا لها من أماكن ملأى بالحماس والمتعة فمن هذا الفردوسي وما قصة الشاهنامة؟ كان الفردوسي وما زال يحتل مكانا شامخا في نفوس الفرس لايدانيه أي مبدع آخر في تاريخ الفكر الايراني، فالشاهنامة ومبدعها يعتبران خزانا من الابداع لا ينصب الهم وما زال يلهم الفرس الوانا من الفن لا نهاية لها. يقول العروض السمرقندي في كتابه المقالات الاربع جهار مقاله : كان الاستاذ ابو القاسم الفردوسي من دهاقين طوس من قرية يقال لها باز وهي قرية كبيرة من نواحي طبران، وكان للفردوسي في القرية جاه عظيم ومكانة مرموقة، وكان يعيش من دخل ضياعه الكثيرة, وكانت له بنت وحيدة وكان مشتغلا بنظم الشاهنامة، راجيا ان يحصل على مكافأة مجزية من عمله الشعري هذا يجعله ذخرا لابنته الوحيدة, فقضى ثلاثين عاما في نظم الشاهنامة حتى أتمها واكملها, ودفع بالكلام فيها الى أعلى عليين,, وجعلها في العذوبة كالماء المعنى,, ولا اعرف عند العجم كلاما بهذه العذوبة والبلاغة والفصاحة، ولا أظن ان في اللغة العربية ما يضاهي بلاغة الشاهنامة. وقد ذاعت هذه الملحمة الفارسية الكبيرة في مختلف انحاء العالم الاسلامي شرقا وغربا، وترجمت الى كثير من اللغات الاسلامية كالعربية والتركية واهتم بها الدارسون كثيرا, ولعل اهم الترجمات العربية للشاهنامة هي ترجمة البغدادي التي قام المرحوم الدكتور عبدالوهاب عزام أحد أهم الرواد في الدراسات الشرقية بدراستها دراسة علمية قيمة واذاعتها بين المهتمين بالدراسات الشرقية. وقيمة الشاهنامة العلمية الحقيقية تكمن في انها جمعت التاريخ الفارسي المبعثر في ملحمة تاريخية واحدة. كان التاريخ الايراني مبعثرا في بطون الوثائق المتعددة التي تتحدث عن سير ملوك الفرس، وقد كتب ذلك التاريخ باللغات الفارسية القديمة والوسيطة واللغة العربية أيضا وخاصة تاريخ الطبري الذي قام العلماء الفرس بترجمته الى اللغة الفارسية الحديثة. جمع الفردوسي هذا الركام المبعثر ونظم شاهنامته العتيدة, وكان الفردوسي حائزا لجميع الشروط اللازمة لشاعر ملحمي عظيم, فقد كان واسع الدراية بتاريخ ايران القديم والمعاصر له, وصاحب قدرة خارقة على اختيار اللغة والتراكيب الحماسية وخلق الأجواء البطولية، ووصف المناظر الحماسية المختلفة، وابراز شخصيات ابطاله وتصويرهم تصويرا فنيا أخاذا رائعا لا يدانيه فيه السابقون الذين حاولوا ذلك ولايقدر على شق غباره اللاحقون الذين حاولوا مجاراته. ذلكم هو ابو القاسم الفردوسي رائد الحماسة في الأدب الفارسي. يقول ابو القاسم: بنيت من الشعر صرحا أغر يمل الرياح ويعي المطر