أصاب الشاعر العربي نوعاً ما، وأجاد في الوصف إلى حد كبير، حينما أخذ على قومه اتخاذهم الدمع سلاحاً يتوسلون فيه للتعبير عن شتى المواقف، ومختلف الأحوال، فقال: وشر سلاح المرء دمع يفيضه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم والشعر في نظري أدهى من الدمع وأشد مرارة، ذلك أننا نستعذب منه أكذبه، ونستمرئ منه أحزانه، ونستسيغ منه ما كان حافلاً بالصور الكئيبة، والألفاظ المموسقة الرقيقة. ولكن ليس لنا بدّ من هذين السلاحين، طالما قولبنا الواقع فيهما، وجرّمت علينا الأمم سواهما من وسائل التعبير والدفاع، وقادتنا- غير مختارين- إلى هذه الأسلحة الباردة، رغم هوانها على الناس في هذا الزمان. وقد وفق الشاعر المهاجر (إلياس فرحات) حينما قال في هذا المعنى: وما صين حق لا سلاح لربه وأضعف أنواع السلاح التأدب ولولا نيوب الأسد كانت ذليلة تعاث وتعنوا للشكيم وتركب وكم ظالم يستعبد الناس عنوة وحجته الكبرى الحسام المشطب نعم في هذا الزمان، ليس لنا من ملاذ نلوذ به، ومفزع نفزع إليه سوى الشعر، إذا نكأت الأحداث جراحاتنا، ودارت على بعض أقطارنا الدوائر، وألمت بشعوبنا الملمات، حينئذ نستسلم لذواتنا ومشاعرنا، فنلجأ إليها، ونتخذ من هذا الفن وسيلة عزاء وسلوان ومنبراً للحنين والعويل. ويزداد الخطب فداحة، والرزايا جسامة، حينما تصاب حاضرة من أقدم الحواضر، وعاصمة من أعرق العواصم، من أمثال عاصمة العراق، (بغداد). فلا غرابة من جيشان العواطف الشاعرة إزاءها، بوصفها مدينة السلام، وقبة الإسلام، ودار الخلافة، وغرة البلاد. مجمع المحاسن والطيبات، كما يقال ومعدن الطرائف واللطائف، تغني في مدحها غير شاعر، وافتن في وصفها غير كاتب، يقول (سليم الزركلي): أبغداد، عرسٌ في رحابك قائمٌ وهذي بنات الفكر فيك نواظم تحييك، والآمال خفق حروفها وتنشد للأزمان، والروح باسم وترقب للفجر الأنيق مطالعاً بهن فصولٌ للعلا ومواسم عسى يلتقي ماضٍ، وآتٍ، فتشتفي قلوبٌ لها خلف الضلوع مآتم تحيفها جور الحوادث، فانبرت تصارع افواج الاذى وتخاصم وتستصرخ الدنيا: لعل فيالقا تحسّ فتشتاق الصيال صوارم أناجيك، يأ أم المدائن والرؤى تهشّ لها أرواحنا والمباسم رؤى في طريق المجد تزهى روائعاً وخير جديد ما بنته العزائم تحية أعراق وعطر أواصر أسقيك، يا بغداد، والوجد عارم لقد فطن كثير من الشعراء إلى خواصها، وتنبهوا على محاسنها، والتفتوا إلى تاريخها، فأطالوا الوقوف عنه وأطنبوا، وكانت صورة «هارون الرشيد» من أكثر الصور حضوراً واستلهاماً، بوصفه القائد الفذ الذي أكسب (بغداد) العز التالد، وهو الذي أضفى عليها ذلك المجد الخالد، فأكسبها ذلك الصيت البعيد، وأسبغ عليها قدرها العتيد الذي ظلت محتفظة به رغم تحالف النوائب، وتكاتف المصائب عليها، وفي ذلك يقول الدكتور: نوري القيسي: أ (بغداد) دار الأكرمين، ولم نزل بعزّ بنيك الأكرمين نكاثر على جانبي مجديك رفت نواظر ورق على جسر (الرصافة) ناظر يمر بك التاريخ (بغداد) حائراً بأي غوالي الحادثات يحاور ومن أي عز يرتجيك محدث ومن أي زهو يبتديك المبادر تعالى بك (المنصور) صوتاً على المدى فكان له من عز مجديك ناصر وشيدت بأيام (الرشيد) مآثر أوائلها لا تلتقي والأواخر به نستعاد الذكريات عزيزة وأيامه بالعز غر حرائرا أ (بغداد) يا عز الليالي، تألقي ففيك من الشوق الدفين زواخر ذرا المجد في فخريك تروي ملاحمٌ وعز المنى في معصميك أساور وكم من شاعر سباه الوجد والهيام، فراح ينعت أيام (بغداد) ولياليها التي تتسم بالأفراح والمسرات، ويجيل الطرف في مسارحها وملاهيها التي رعت مدارج الصبا، وعهود الشباب ومن الطبيعي - والحالة هذه- أن تحتل المرأة (البغدادية) مساحة من أدبهم ، فأمعنوا في وصف ملامح من قدها وخدها، وخصرها وأردافها، وثناياها وعينيها، عارضين لدلالها وصدها، وتمنعها وتلطفها، ملتفتين - في الوقت نفسه- إلى ما يلاقيه المحب من تباريح الوجد، ولواعج الشوق، وقسوة البعد، ومرارة الحرمان. ويبدو أن هذا اللون من الأدب ارتبط ظهوره وازدهاره إبان انحسار ادوار الخلافة الإسلامية في العراق، إذ وجد الشعراء فيه سلوة من الواقع، شأنهم في ذلك شأن كثير من شعراء الوطن العربي المعاصر، والذين أذابت فيهم الحياة الذليلة، سمو النفس، وعلو الهمة، وتناول معالي الأمور، يقول الشاعر السوري (خليل مردم بك): لياليك يا (بغداد) في الحسن كالفجر معطرة الأنفاس طيبة النشر فياليلة من دونها ( ألف ليلة) سأذكرها بالخير ما مدّ في عمري شهدت بها ما يملأ النفس بهجة ويقضي على العينين والقلب بالأسر كأن الحسان الغيد يخطرن بيننا ملائكة الرحمن في ليلة القدر فكم غادة تصبي الحليم بسحرها تضيء ظلام الليل كالكوكب الدري تفتح أعلى الثوب عن غض جسمها كما انشق كم الزهر عن ناضر الزهر تقلص عن صدر وظهر سواده كما انشق ليل عن عمود من الفجر تشبث لما زال أعلاه عنهما بناهد ثدييها ودار على الخصر يزيد بريقاً عقدها فوق نحرها فنورٌ على نور حلاها على النحر رجوت ل (بغداد) رجاء المحبب أن تعود لياليها بأيامها الغّر والشعراء المغتربون عن العراق أكثروا من الحنين إلى (بغداد) والشوق إليها، حتى أنك لتقرأ في قصائدهم نبرات الأسى التي طغت على مشاعرهم الذائبة وارتسمت على عواطفهم الدافقة، بعد أن طوحت بهم الأحداث، ورمت بهم بعيداً عن مطارحهم ومرابعهم، فهذا الشاعر القاضي (عبدالعزيز الجرجاني) حين تطوف بخاطره ذكرى (بغداد) تستعر لواعج أشواقه إليها، وتستولي على حاله حال من الوجد والهيام: إذا لاح لي من نحو (بغداد) بارقٌ تجافت جنوبي واستطير هجوعها وإن أخلفتها الغاديات وعودها تكلّف تصديق الغمام دموعها بها تسكن النفس النفور ويغتذى بآنس من قلب المقيم نزوعها يحن إليها كل قلب، كأنما تشاد بحبات القلوب ربوعها فكل ليالي عيشها زمن الصبا وكل فصول الدهر فيها ربيعها وشاعر آخر، كزكي مبارك، ارتبطت (بغداد) بأجمل ذكرياته، حيث أمضى فيها أنظر سنوات العلم من عمره، فظلت آثارها ومعالمها وحصونها وقصورها متغلغلة في وجدانه، تستثير أشجانه يقول وقد استبدت به لوعة الفراق ولواعج الحنين إلى مرابعها: وفدت على (بغداد) والقلب موجع فهل فرجت كربي؟ وهل أبرأت دائيء؟ عفا الحب عن (بغداد) كم عشت لاهياً أُكاثر أيامي بليلى وظمياء فكيف وقعت اليوم في أسر طفلة مكحلة بالسحر ملثوغة الراء أصاول عينيها بعيني، والهوى يشيع الحميا في فؤادي وأعضائي أكاتم أهليها هيامي ولو دروا لهامت بجنب الشط أرواح أصدائي أ (بغداد) هل تدرين أني مودعٌ وأن سموم البين تلفح أحشائي لحبيك يا (بغداد) والحب أهوجٌ رأيت فنائي فيك شوق أحبائي أ (بغداد) هذا آخر العهد، فاذكري مدامع مفطورٍ على الحب بكاء أ (بغداد) يضنيني فراقك، فاذكري لدى ذمة التاريخ بيني وإضناني ومهما تعددت موضوعات الشعراء، فإننا نجدهم في معظم القصائد، يشيدون بالأمجاد القديمة ل (بغداد) وبدور الأسلاف في نشر الحضارة العربية الإسلامية، محاولين من خلال الإطلالة على تاريخها إثارة نخوة الشعوب، ووصف حال الأمة وما تعاورها من ذل بعد عز، وعبودية بعد سيادة وضياع بعد منة.