في قاموسنا اللغوي مساحة كبيرة من إدارات التعريف ومفرداتها.. «الرؤية» للبصر المجردة.. وأحيانا تكون للبصيرة النافذة داخل الأعماق. الرؤيا «للخيال السابح في بحر الأحلام حين يستغرق في خياله صورا اختزنتها ذاكرة اليقظة.. او حتى اضغاث أحلام اشبه بالكوابيس المفزعة التي تقض المضاجع لتوحشها.. او حتى تلك الأحلام المغرقة في خيالاتها غير الواقعية كأن يرى الحالم نفسه يحلق كالطير.. او يعبر مسالك او ممالك لا وجود لها في حياته.. ولا حتى في أمنياته.. وشاعرنا زولي قدم لنا رؤيته الشعرية الأولى.. أهي حلم اجتره.؟ ام علم عاشه وعايشه لحظة سبات؟ حتى هذه اللحظة لا يدري احد.. ربما الإجابة على هذا التساؤل المطروح تتكشف لنا ملامحها من خلال متابعتنا لديوانه «أول الرؤيا»: البداية كانت قراءاته في وجوه رحلت: «يجيء المصباح بلون انتمائي وارصفة الذكريات غطائي وحلم صبايا بسنبلة الزمن المترهل.. والفجر ناء» استحسن قبل التواصل مع قصيدته لو أنه أضاف «الياء» لكلمة ناء.. إذن المكان ذلك أحسن. «يذوب سنا الشمس فوق فمي فيشطرني عطش البؤساء». لماذا لا يذوب وسط فمك.. إلا إذا كان ذلك عرقا يتصبب فوق جبينك.. أنت أدرى.. يسائل شاعرنا الرمل هل عفر الجسد.. وهل جُنت الريح من كبريائه ثم يروح للروح التي تهيم في فضاءاته: «وللروح أجنحة في الغيوم تهدهد فيَّ لظى الاشتهاء ترابية تصطلي بالهوى من النور، والنار، والخيلاء». ولأنها ترابية أليس الهواء الأقرب صلة من الهوى؟.. كلاهما لا غبار عليه، وتبدأ الصورة الشعرية ترسم ملامحها أكثر.. وأكثر: «وهاجسها السفر الأبدي إلى أوجه رحلت للسماء تنحت عن الطين والصبوات وعن ظمأ العمر للارتواء». لعل رؤيته الأولى جاءت وداعية شجية اطفأ اداءها انبعاث الفجر، حيث يستفيق من حلمه إلى واقع علمه دون أن يكشف لنا بوضوح سر من يعني.. «أصداء السؤال» محطته الثانية التي لازمناها معه عن قرب لعل الإجابة تبدو أكثر وضوحا من سابقتها: «من أنت؟ واشتعل السؤال كالرعد قهقه في الجبل» الرعد يا صديقي يدمدم.. انا لا أعرف له قهقهة ذاته معنى.. «وأهاجني رجع الصدى وثوى الهجير على الظلال وتهشمت بيدي مرايا الأمس من بعد اشتعال وتنهد الليل الكسيح وفيه صوت للجلال» إغراق في التوصيف إلى درجة الغرق.. وامعان في توظيفه المفردات إلى درجة أنه من نوع ذلك الحلم الذي لا يستغرقه خيال النائم حين يصحو.. انه بشهادته حائر.. بل قصة لكل الحيارى بما فيها نحن الصحبة: «انا للحيارى قصة تجتر آهات ثقال» حتى سنابل ذكرياته تفيأت حكاياته الطوال.. بل أكثر من كل هذا شمسه لم تُسَّر لنهارها لأنها غير قادرة على حجب بريق نجوم المساء.. أما عيون حروفه فقد سكبت دمعها كي تغطي ومض الجمال. ماذا أبقيت لنا يا شاعرنا من جُمل نتزود بها.. ونحن الجياع الى جمل جمالية توصلنا إلى نهاية.. إلى قصة؟! ولأن الوقت لا يسمح لنا عبر رحلتنا بالبطء ولا بالتلكؤ عبرنا مقطوعة «الوقت» الى «نخيل احلامه» في محاولة لجني الثمر.. وقطاف التمر.. ماذا ستأتي الحصيلة؟! «أتحين لوعتي. واشتياقي وانبعاث الصباح من احداقي وأناشيد عاشق يتمنى من سناك البهي ومض التلاقي» البداية مثمرة حلوة المذاق لو لا ان شاعرنا اغفل علامات استفهام ضرورية.. «حدثيني إذا تنفست لحنا وقرأتِ النجوم للعشاق وتواريت خلف نافذة العمر حجيما.. تسعين في احراقي» لماذا كل هذا يا شاعرنا المتيم، الغاضب.. اهي تهمة؟ ام استباق لمعركة لا يُعرف فيها من المنتصر؟! انه يسرب لنا بعضا من خلايا ثورته.. «قد خبا الشوق في الحنايا.. ولكن من نخيل الاحلام في الصدر باقي يرحل النور عن مدائن قلبي والأماني العذاب تخشى عناقي» صراع محتدم بين ألمه وأمله.. اجاد رسمه.. وتفوق فيه على ضعفه.. اشعرنا اننا في رحلة مع شاعر يتباين مستوى محطاتها سموا.. ودنوا.. أليس القائل؟! «والصبابات نارها تسكن الروح وتصلي مرافئ الأشواق والهوى الناعس الجميل يواري جمرة الأمس من لهيب الفراق» معركة حب فاصلة ليس فيها منهزم، ولا مختصر.. تقودنا إلى «أول الرؤيا» الذي اختارها عنوانا لديوانه: «يا أيها الوطن المسافر فوق هامات السنابل جسري تألق في المدى. واندس في ريش البلابل الماء وجهي.. والمنافي صمتها غضب الجحافل والفارس الورقي اسرج خيله. ومضى يقاتل» بأي سلاح سيحارب فارسنا.. بالنثر؟! أم بالشعر؟ أم بشيء آخر لا يكسب معركة؟ «ويخيط الأحلام في ورق الغياب من العنادل يا أيها الرؤيا احبك خلف اسوارالفواصل تتسلق الكلمات سرك بين افواه المعاول الموسم القروي تاه الى اناشيد القبائل» أحلام مقطوعة شاعرنا ميتة ومحنطة في أوراق غياب منسية لا توقظها.. بل ولا تذكر بها اناشيد وقصائد لأن الموسم تاه.. ولان موسم دون حياة.. «حكايات الرماد» لا نرغب نبشها مخافة ان يتطاير رمادها في عيوننا رغم انه محصلة نار قد تبعث من جديد.. و«حصار الهاجورة» لا يجتذبنا اليه فقد ضقنا بالحصارات الظالمة المفروضة علينا من اعدائنا الى درجة القتل والإذلال.. نتوقف أمام خطوط رسمتها ريشة الشاعر على كف المساء علنا نقدر على قراءتها.. «حلق الشعر في فضاء سمائي واتى طائعا بغير عناء يرتمي ساعة بحضني، وحينا يذكأ الجرح. سهمه في دمائي أيها الساكن الضلوع اجبني كيف أجهضت عزتي. وبكائي؟» ابدايا شاعرنا لم يجهض بكاءك وانما فجره.. لقد اجهض آباءك.. يحسن بك ان يأتي شطرك على النحو التالي: «كيف اجهضت عزتي وابائي؟» من ذا الذي فعل فعلته الشنعاء.. وأقض مضجع شاعرنا الذي يحتسي دمعه وحيداً في سهره.. وسجينا في ردائه؟! «زمن ينسج العذاب بوجهي ويحط النوى بكف مسائي يحفر الحزن في قصيدة شوق ويهد السمو في كبريائي» آه يا زمن.. آه منك كم عذبت الشعراء في أحلامهم. والفقراء في واقعهم.. والمستضعفين في مواقعهم.. كلهم اسرى غضبتك.. لا بيدك انت.. وإنما بأيدي من لا يعترفون بالزمن محطة بقاء. ولقاء. ولقاء.. «الشاعر» محطة شاعر نسير في ركبه لن تضيف الينا جديدا.. «الأرض» الأكثر جذباً نتوقف عندها: «من الماء او حجر ثائر تحاصره الأرض والمطرقة يورقه الزمن المستبد وبرد السؤال الذي اقلقه» من ذا يكون يا ترى ذلك المخلوق من الماء والطين؟ اليس الحجر طينا صلدا متجمداً؟.. بلى.. لعله الإنسان.. «وحيدا يهاجر تتبعه مراياه والقرية المرهقة قصائده تسكن المستحيل وأعينه في المدى مورقة على مفرق الليل يوقد شمسا لكي تطفئ الموت.. او تغرقه». الشمس يا صديقي لا تغرق وانما تحرق بوهجها.. واذا كان لا بد من الاغراق فأبدل مفردة الموت بالموج كي يستقيم المعنى.. هكذا أرى.. وفي النهاية يكتمل للصورة الشعرية الجميلة اطارها الفني بهذا البيت: «على دمه الانتماء الفصيح وحب الفراشة للزنبقة يفتش عن نورس أخضر ويبحث في اللغة المطلقة» أنه إنسان اخترته.. وابدعت في اختياره دون تكثيف لفظي قاتل للمعنى.. «اناشيد اللهب».. من أي معدن عجنت؟ من ذهب أم من تراب؟ أخاله الأول.. «أضاء وجهي فغادرت التراب ضحى وصافحتني كفوف الريح يا وطني وغازلتني خيام البدو وانكفأت على فم الرحل حيري. كي تعانقي» الأجمل ان تستعيض بكلمة حيرى «نشوى» او «ولهى» او «جذلى» كي يكون للعناق طعم.. إلا ان فرحة شاعرنا لم تتم: «وجه بلا بصر تمضي مدائننا هيا امنحوها عيونا كي ترى سكني سرابنا تتهجى الشمس صفحته ويستريح على اطرافه بدني» ويأخذه التساؤل متى يورق صبار لغته.. لقد نفد صبره على طول وجعه وراح يسترجع مع الشكوى ويستفزه: «كسر رمادية الازمان يا وجعي واردم تضاريسها الجوعى لكي ترني واستنطق اللهب المخبوء يمنحني انشودة وترانيما من الشجن» الرحلة أمامنا تستعجلنا النهاية.. المحطات كثيرة.. والفترة الزمنية لا تسمح لنا بالوقوف عند كل محطة.. «الرحيل» عبرناها الى «الوطن» في شوق اليه لا يعادله شوق: «وطني نقشت على ثراك هوى مجنون ليلى بات يحسدني وغرست فيك الحلم صارية اتراك مثلي صرت تعشقني؟» حتى أنا يا شاعرنا الإبداعي أحسدك لا من باب الحسد القاتل دائماً من باب الاعجاب الكبير لقدرتك البنائية الشعرية «القدس تصرخ في ضمائرنا صوتا تؤجج ناره بدني أنا بنت يعرب كيف يلفظني من كنت احضنه ويحضنني؟» السبب بسيط.. والاجابة ابسط.. عدونا لا وعد ولا عهد له.. تاريخ نكوصه أسود.. ورصيد غدره احلك سوادا.. نحن طيبون بما فيه الكفاية.. اخذنا على غرة.. وهزمنا على فرقة وضعف.. ومع هذا لن تضيع القدس فلها مطالبون وما ضاع حق وراءه مطالب طال الزمن أم قصر.. العبرة بالنهاية. وتبقى اخيراً مجموعة قصائد قصيرة تحت عنوان «نصوص البينات» يتفرع من عنوانها الواحد عدة عناوين «وقوف» «البرق» «وعد» «الشهود» «فتنة» «وصية» «خاشعا احصد الغيم» «زيارة» «أحاديث» «ضوء» «البينات» التي اختار منها هذه الأبيات: «تمرُّ عليَّ الوجوه سراعا سوى وجهك القمري فأقرأ ما تيسر من كلمات المحبين كي لا يغيب» ومع هذه القراءة لشعر شاعرنا إبراهيم زولي الذي ضمنه ديوانه «أول الرؤيا» اشعر انني كسبت الجولة بعد ان انتصر في الرحلة.. لقد قرأت معكم بعض ما تيسر من عطائه الشعري الجميل الذي لن يغيب عن الذاكرة لأنه يستحق الحفظ. الرياض: ص.ب 231185/الرمز: 11321