الذات والنص عند محمد الثبيتي متلازمان وملتبسان ، أحدهما يتحرك من الآخر ويفضي إليه ، وقد أفصحت تجربته الشعرية عن هذا التلازم ؛ بل وانبثقت منه : يقول مخاطبا المعشوقة التي كثيرا ما تلتبس بكل ما ينشده،وقد يكون القصيدة: عرّيت أسمائي لديك كتبت قصيدة أجهشت باللحن اللذيذ تشابكت في داخلي مدن ،صحاري ضاجعتها النار فابتردت بماء الغيث ص114 الأعمال الكاملة أضحى النص جريانا في تكوين الذات ؛ فتكونت داخله عوالم نقل إلينا لحظة امتزاجه معها ، والتحول من النار إلى الابتراد بماء الغيث ؛ ليكون بعد ذلك نبت المطر ، ونبت القصيدة ، الذي يضيء الرمل ويشتعل للريح ، وهو الذات والنص ، ذات الثبيتي وشعره : يا أيها الشجر البدائي ابتكر للطير أغصانا وللأطفال فاكهة أقم في الرمل ناقوسا طموحا واشتعل للريح ص114 ولذلك يمتزج عالم النص الشعري عند الثبيتي بعالم الحلم ، وتظل تتردد بين العالمين ، عالم حلم ، وعالم نص يكوّن الحلم ويقرؤه ؛ وذلك كما في نص ( قراءة ) الذي يقول فيه :(الأعمال الكاملة115،116) عرى مقلتي نوم بهي فأسدلت عليها شغاف الحلم ، أوقدت مشكاة ، رأيت نساء يحتسين الهوى العذري من منبع الشمس ويغرسن في الطين رجالا. هنا الحلم ، وهنا مكونات القصيدة ، قراءة حلم جاءت تكوينا لنص نرى عالمه الذي ينشئ عالما تنفتح صفحته على تأويل الرؤيا ؛ ولذلك ما إن تكون هذا العالم المرئي في الرؤيا حتى جاء النص يرسم مسار الذات : مررت بوادي الخوف أتلو كتاب الخوف أطوي نهارا غامقا وأشيع الطيب في قرية مأهولة بسواد الجوع .. يا لسواد الجوع ران على الأرض وطالا . أضحت الذات ذاتا كونية ، تحمل كتاب الخوف ، والقرية تتسامى لتكون قرية الأرض . . .هكذا هو نص الثبيتي يتفاعل مع الكون ، ويسير في مجراته ؛ إذ القرية ليست قرية على خارطة الجغرافيا وإنما تنداح لتكون الأرض .وهنا تتجاوز الشاعرية خصوصية شاعر يقنع بأن يكون أنشودة على الشفاه، إلى شاعر يحمل الكتاب ويتلوه. ومن هنا انتقل النص إلى التماس الحركة الكونية ، وتأويل تكوينها : رأيت صباحا طافحا بالدم الصافي وريحا تجوب الأرض ثم تسوي حول مكة برديها وتلقي على الأرض الرحالا التقاء الزمن والإنسان والريح والأرض يتجسد أمامنا ؛ لينزوي ذلك في مكة ، وربما كان ذلك استثمارا لأحاديث عن انزواء الأرض وطيها ؛ فالصباح الزمن يبدأ ليكون اشتغالا كونيا ، والدم تطهير وولادة وانتقاض على الواقع يحضر هنا لكي يحقق الوجود الكوني المهيأ لفعل مكة ... لحظة حلم تحضر لدى الشاعر الذي تحتضنه مكة ؛ ليكون هو ومكة في أفق الرؤيا التي شكلها النص . ثم يستيقظ النص على فعل الذات التحويلي إلى أفق البشرى ، والندى ، والفجر : كلما أوغلت في صدر المدى طفقت يمناي تهمي بالندى أنثر الطلع على عري الثرى وأحيل الرمل فجرا أمردا وقد شغل نص الثبيتي الشعري بالتكوين النصي لذاته الشعرية ، تلك الذات التي يلازم تكوينها الشعر والنص ، ومفرداته من اللحن ، والموال ، والرقص ، والشوق ، والاشتعال ، والسفر ، واللغة ... ففي نص بعنوان ( فواصل من لحن بدوي قديم ) ( الأعمال الكاملة ص173)، يقول محمد : مشرع كالسيف وجه بدوي من رياح الليل مولود ومن طول السفر الذات الحاضرة هنا هي الذات الشاعرة النصية ، ولذلك جاءت متلبسة بعالمها الشعري ،منه تبدأ وإليه تعود ، من ( رياح الليل ) ، هذا الرمز الشعري الذي شغل الثبيتي كثيرا على نحو ما سلف القول ،ومن طول السفر ، ليكونا عالمي تحول وإيحاء يشكل الذات ، ويشكل عالمها الواقع تحت رؤيا الشاعر وبصيرته ؛ ولذلك كان البدوي موغلا في عمق التاريخ ، منه يتشكل وإليه يؤول ؛ لتكون مسيرته على الصحراء خطوات الفاعل ، الذي يسكب على الرمل ماءه المخصب : يزرع الرمل خطى ذات اشتعال ورحيلا وشعاعا من شذا الدهناء موصول بألوان العشايا وهلالا راقص اللون على وجه المساء الطفل لا ينوي الأفولا الخطا ليست خطا ترسم أثرا فقط ، وإنما هي خطا مشتعلة ، تمتزج مع ما يستوحى من الدهناء على شكل شعاع ، يصبغ بلون العشايا لنجد أنفسنا مع هذا المشهد أمام حركة تشكيل موغلة في زمن التاريخ وأفقه ، بها الرقص ، ونية التحايل على نهاية الزمن ؛ ليصدق بعد ذلك القول بأن الذات التي أمامنا هي الذات الشاعرة التي تشكل كائناتها وزمنها وأفقها . وعلى هذا جاء قول الشاعر بعد ذلك راسما تشكيل هذا الكائن الذي اصطبغ وجوده بما يشكله من نص ، وما يجسده فيه من عالم يتسامى إلى أفق عال من نسيج تكوينه ومن حيويته ، حين يقول : رسم الشوق على أهدابه لغة عليا وعمرا مستحيلا يتهادى شامخ الصوت سماوي الهوى تنهل الصحراء من عينيه موال الصبا الليلي واللحن الجميلا نحن هنا أمام الفعل الشعري ( فعل النص ) ، الذي امتزجت به الذات ، أمام النص بكل مكوناته : لغته ، زمنه ،مصدره ،لحنه ،بل أصبحنا أمام مستقى للمنبع الصحراء الذي آل إلى مستق ، ينهل من هذا الوجود الشعري .