ليس العرب وحدهم من يغرم بروايات المؤامرة، فقبيل بضع سنين تفتق خيال هذا العشق في بريطانيا حول حادث الأميرة ديانا، وقبلها ولا يزال في أمريكا حول مقتل الرئيس كيندي.. إلا أن فكرة المؤامرة قلما تلعب دوراً مهما في التحليل المنهجي للفكر السياسي، إضافة إلى أنها تكاد تنحصر في مسائل الاغتيال لارتباطها المحتمل بالعمليات الاستخباراتية السرية. ولكن أحداث 11 سبتمبر وما أعقبها من تبعات وصولاً إلى الغزو الأمريكي للعراق، أعادت الرواج لنظرية المؤامرة في العالم العربي بقيادة منظريها المعتادين على التبسيط أو المسكونين بهواجس الارتياب المَرَضي (Paranoia)، حتى وصل الأمر ببعض الكتاب أن يعلن: «النظرية العقلانية الوحيدة لتفسير الأحوال (الحاضرة) هي نظرية المؤامرة (ياسين الحاج صالح) ووصل الأمر بأجزاء الشارع البغداي أن يطلق إشاعة لمؤامرة فضائية بأن صدام حسين اختطفه صحن طائر قادم من الفضاء!!». لا يمكن استبعاد المؤامرة من اللعبة السياسية، فقد ظهر التآمر منذ وجدت النزاعات، إلا أنها نادراً ما تلعب دوراً حاسماً في تاريخ الشعوب أو تؤثر جوهرياً على أحداث التاريخ الكبرى، باستثناء الاغتيالات الفردية. ذلك أن المجتمعات وتاريخها ليس فراغاً يتم تعبئته بخطط المتآمرين وتزييفهم المؤقت لبعض الوقائع، فحركة التاريخ هي تراكم الأحداث وتطورات حقيقية (مادية وروحية). وقد تجدي المؤامرة على المدى القصير لتحقيق منافع آنية، بينما المصالح المتشابكة تبقى على المدى المتوسط وربما البعيد، ومن ثم فمصالح الدول لا تركن للتآمر ذي التأثير القصير الأجل. والمؤامرة ليست محركاً أساسياً في العلاقات الدولية، فهي تتم بين طرفين في الخفاء لعمل غير قانوني ومؤذٍ للآخرين (قاموس أكسفورد)، بينما الاختلاف بين الأمم أساسه المصالح وتشعباتها المعقدة، تتم بين حكومات تمثل بشكل أو بآخر مصالح شعوبها يصعب أن تتم خفية، خاصة في العصر الحديث حيث صناعة القرار في الدول العظمى المتهمة بالتآمر تمر بسلسة طويلة ومتشابكة من هيئات الدولة التنفيذية والتشريعية والاستشارية والقانونة وشبكة الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.. مما يجعل المؤامرة الكبرى أقرب إلى المستحيل. وفي المجتمعات التي تبالغ به دور الرقابة في انتقاء أو حجب المعلومات والدراسات الفكرية والمعرفية عن أبنائها تزدهر العقلية غير العلمية حيث ترتبط النتائج بمسببات واهية أو وهمية أو صورية.. فعند ندرة المعلومات أو عدم توفر الحد الأدنى من المعطيات والأدلة التي يطلبها التحليل السياسي والفكري لحوادث ومراحل معينة يلجأ المحللون والمهتمون إلى الاستناد على التحليل المنطقي والمقاربة التاريخية وبعض أدوات التحليل الأخرى ومن ضمنها إدراج بعض أخبار الفضائيات المعتمدة على الصور مع معلومات غير موثقة، أو شائعات وروايات باعتبار أنه لا يوجد دخان من غير نار!! هنا ترتع فكرة المؤامرة وتزدهر. فإذا قام النظام السياسي بإجراء عملية إصلاحية أو تغيير وزاري أو ما شابهه تلجأ التحليلات إلى إعمال الخيال الخصب في صياغة مؤامرة مفترضة سلفاً لها أهداف غير معلنة، وذلك ببساطة أن المحللين لا يملكون معلومات أو معطيات كافية للتحليل. ولا تكفي المعلومات وحدها للتحليل السليم في مجتمعات ذات خلفية مثقلة بالأمية وانتشار الخرافات، بل تحتاج إلى وسيلة علمية عقلانية ممنهجة، فقد تكون المعلومات بيد محلل يعتمد على الخرافة والتصور المسبق للأحداث الذي يلوي أعناق الحقائق. ومن العوامل الداعمة لنظرية المؤامرة هو التعصب، فالمتعصب الإيديولوجي يملك وجهة نظر قطعية سابقة وجاهزة لكل الأحداث فعندما تحصل واقعة غير مفسرة من قبل قناعاته أو لها تفسير يخالف أفكاره يلجأ إلى التفسير التآمري ويتخيل سياق الأحداث بما ينسجم مع تعصبه الفكري وليس بما وقع فعلاً. كما أن فشل العديد من المحاولات والتجارب السياسية وتعاقب النكسات على الأمة مع عدم القدرة على تفسير هذا الفشل المتوالي وصعوبة مواجهة الذات ونقدها جعل من إلقاء اللوم على تآمر الآخرين فكرة مغرية بدلاً من الدخول في عملية تحليل نقدي منهجية معقدة ودؤوبة. ولا يجدي التفسير التآمري للأحداث نفعاً، بل في كثير من الحالات يحفز التطرف القطبي. القطب الأول هو الانهزامية، فبسبب المؤامرة وسيطرتها على الأحداث يرى البعض أن لا جدوى من العمل أو الإصلاح ما دام كل شيء يتم بمؤامرة، فيتم استبعاد أو التقليل من شأن المحاسبة والمراجعة الذاتية أو الإصلاح الداخلي. والنقيض الآخر أو القطب الثاني هو الصدامية، حيث أهم حل في نظر المقتنع بالمؤامرة يكون باقتلاع جذور المؤامرة، وبعد ذلك يهون الأمر ويغدو الحل ميسراً، ويرى هذا الفصيل أن الصدام مع من يظنهم متآمرين لا بد أن يتم بأقصى درجات العنف لمرحلة زمنية قصيرة يتم خلالها إزالة المؤامرة تم تنفرج الأمور، ومثال ذلك الانقلابات العسكرية والعمليات الانتحارية في مواقع غير محتلة. إن التقليل من دور المؤامرة لا يعني التقليل من خطورة العامل الخارجي وجرائم الخصم الآخر بقدر ما يعني أن التركيز ينبغي أن ينصب على الداخل لتطويره، بدلاً من إهدار الجهد في شتم مؤامرات عدو بطريقة لا تنفعنا ولا تضره. بقي أن نذكر أنه في خضم استغراق المنظرين لفكرة المؤامرة، قلما نجدهم يتساءلون عن سبب عجزنا عن التصدي لهذه المؤامرات المزعومة؟ ولماذا تنجح بطريقة مذهلة وكأن الشعوب تقاد بالمسطرة والمنقلة؟ ولماذا تستهدفنا دون غيرنا من الأمم؟ أما أهم سؤال فهو لماذا لا يتم اكتشاف المؤامرات قبل وقوعها؟ الإجابة قد تكون: ربما لأنها لم تقع إلا في عقول المنظرين!!