قرأت باهتمام كبير مقالة الدكتور محمد الرميحي يوم الأربعاء الموافق 27 نيسان أبريل 2005، بعنوان "نظرية المؤامرة في الثقافة العربية المعاصرة"، التي عبر فيها عن نقده الشديد لنظرية المؤامرة ومركزيتها عند تحليل الأحداث، وبالذات في العلاقة مع الآخر، ليس لدى العامة فقط بل حتى لدى الخاصة من المثقفين والسياسيين. وإن كنت أتفهم بعض النقد الذي ساقه الرميحي، إلا أنني أستغرب حقيقة هذا النوع من الإقصاء الكامل لنظرية المؤامرة عند تفسيرنا للأحداث الدولية، وبالذات في منطقتنا الإسلامية والعربية، على رغم أن هناك كثيراً من المؤشرات والدلالات والاعترافات أيضاً التي تواترت عبر التاريخ السياسي للمنطقة، تؤكد أن هناك أحداثاً كثيرة كانت نتيجة مؤامرات تحاك من أطراف داخلية أو خارجية، أو بتواطؤ من الاثنين معاً، والهدف في النهاية استمرار المنطقة في دوامة الاضطراب والفشل. وحتى لا نسترسل في العموميات، أجد أنه من المناسب تناول الأحداث نفسها التي تناولها الرميحي، والتي رأى أنها فسرت على عكس الحقيقة بصورة تآمرية، فبالنسبة إلى وفاة الزعيم الفلسطينيعرفات دلت كثير من الشواهد والمعطيات على أنه مات مسموماً، وهذا بشهادة مقربين منه مثل: ممثل فلسطين لدى الأممالمتحدة ناصر القدوة، وطبيبه الخاص الدكتور أشرف الكردي. وإذا لم نصدق السياسيين والمهنيين، فمن عسانا نصدق؟ شارون الذي ما فتئ يأسف علناً على عدم تصفية عرفات عندما كان قائداً للقوات الإسرائيلية المجتاحة لبيروت عام 1982. أما بالنسبة إلى مسألة القبض على صدام، فليس موضوع أين قبض عليه مهماً بقدر انه في النهاية قد قبض عليه. ولا تخرج هذه المسألة عن كونها مجرد اختلاف معلومات لا أكثر، يدخل في خانة من لديه معلومات أكثر، وما مصادره وما مدى صدقيتها؟ أما بالنسبة إلى غزو صدام الكويت فلم نسمع أحداً يقول إنه كان بإيعاز من أميركا، بلا شك في أنه كان بإيعاز من نفسه، ولم تتدخل أميركا في الموضوع سوى أنها أعطته الضوء الأخضر كما ذكر ذلك العديد من الكتاب العرب. أما إذا كان لزاماً علينا ألا نصدق أي معلومة حتى تأتينا من مصادر غربية عموماً، فإن برنامجاً أميركياً مدبلجاً للعربية عرض أخيراً على قناة العربية، على ما أظن اسمه"صدام الذي صنعته أميركا"، أكد هذه المعلومات. وهكذا أعتقد أنه يجب ألا نلوم العقل العربي كثيراً في هذه القضية بقدر ما يلام عقل صدام المتهور دائماً. بعد كل هذا، هل يراد منا أن نفهم أن العقل العربي هو العقل الوحيد الذي يفسر الأحداث بطريقة تآمرية؟ لو تفحصنا جيداً ثقافات الأمم الأخرى بما فيها الغربية لوجدنا لديها تجسيداً لنظرية المؤامرة بشقيها الواقعي والتخبطي. بل والأكثر من ذلك، لا نجدها مقصورة على العامة بل أيضاً موجودة لدى الخاصة. ولربط هذا الكلام بمثال واقعي نذكر تفجير أوكلاهوما الشهير في أميركا حينما اتجهت كل أصابع الاتهام إلى العرب والمسلمين، ولم يكن يسوق هذه التهمة رجل الشارع الأميركي، بل حتى وسائل الإعلام وبعض الجهات الرسمية الأميركية، حتى تبين أخيراً أن العرب ليس لديهم أي ضلع في الموضوع. وإذا كان هناك من مشكك في نظرية المؤامرة، فإني ألفت نظره لدرس السياسة الإسرائيلية في المنطقة العربية والإسلامية جيداً. حيث سيشاهد كيف أن إسرائيل جعلت من التآمر على العرب طريقة ومنهاجاً، فإسرائيل لها باع طويل ويد طولى في استراتيجية"تلقيح الجثث"وتلبيس التهم التي ليست هي دائماً من تلبيس إبليس بقدر ما هي من تلبيس إسرائيل. ولهذا فإن أحد أهم الفرضيات المطروحة في عملية اغتيال الحريري أنها كانت بتدبير إسرائيلي، فهناك مبدأ أصيل في القانون يقول إنه عندما تحدث جريمة ما ففتش دائماً عن المستفيد، فليس كل ما يلمع"حقيقة"، بل قد يكون وراء الأكمة ما وراءها. وتقوم على لا عقلانية في فهم العلاقات وتأويلها للأحداث أن ما يحل بنا من مصائب ومآسٍ يتم فقط من أطراف خارجية، وأن ليس لنا أي دخل فيها، بينما منطق الرميحي على ما يبدو يقول إن ما يحل بنا هو من صنع أنفسنا، وأن الخارج ليس له أي دور. في هذا السياق يبدو أن خير الأمور أوسطها، فعوامل التخلخل في مجتمعاتنا موجودة، وهناك أطراف خارجية تتدخل بالعزف عليها. إن تقويم وتفسير نظرية المؤامرة يرتكز بالدرجة الأولى على الزاوية التي ننظر من خلالها إليها. لذا أعتقد أنه لا يمكن تصور أن العالم يدار من طريق مجموعة من الأشرار أصحاب لحى طويلة، وأسنان بارزة، وملابس رثة سوداء اللون، يجتمعون في الخفاء في أماكن لا يراهم فيها أحد. وهدفهم فقط هو وضع الخطط لتدمير العالم الإسلامي والعربي، وأنهم لم يخلقوا سوى لهذا الهدف، ولكن ما يجب تداركه هنا أن هناك كثيراً من الأحداث السياسية تجعل صاحب اللب حيران، أو كما يقول إخواننا السوريون تضع العقل بالكف! حتى انه لا يجد تفسيراً غير أن وراء حدث سياسي ما أطرافاً لها مصلحة في توجيهها بالشكل الذي أصبحت عليه. لأن المحلل السياسي والمتابع في شكل عام تظل قدراته الاستطلاعية محدودة، فليس هو بمنجم ولا بقارئ كف. ويعاني عند تحليل الأحداث من قلة المعلومات أحياناً وكثرة المعلومات إلى درجة تضاربها أحياناً أخرى، ويظهر كأن هناك حلقات مفقودة، ما يصعب عليه وضعها في إطار منطقي متناسق يستطيع تسويقه، وإقناع الآخرين به. وهذا في النهاية ما يجرح موضوعية الطرح. وعلى اعتبار أن الرميحي أكاديمي معروف، فإني أذكره فقط بنظرية القوة المصلحة لمورجانثو القائمة على فكرة أن النظام الدولي تحكمه الفوضى وأن الجميع يسعى إلى القوة من أجل مزيد من القوة. وإذا أخذنا في الحسبان كذلك أن قانون السياسة لعبة بلا أخلاق، وبالتالي بلا قوانين فإنه يجب علينا أن نتوقع اللامتوقع دائماً عند ممارسة السياسة داخلياً وخارجياً. أفضل تفسير لمقالة الرميحي أنها كانت نوعاً من التنفيس، أو بالأصح أنها كانت نوعاً من جلد الذات لإيقاظها، لكن الخوف كل الخوف أن نتحول من جلد الذات لإيقاظها إلى جلد الذات لقتلها! بدر البلوي ديبلوماسي سعودي