حين ذهبت قبل بضع ليال الى الامسية الشعرية المخصصة للدكتور غازي القصيبي ضمن برنامج الندوات الثقافية لمهرجان الجنادرية، كان يدور في ذهني التساؤل: اي شعر يمكن ان يختاره ليلقيه على الحاضرين شاعر مثله في مثل هذه الظروف المحيطة بنا؟ كنت اعرف ان لشعره جمهورا يعشقه في الرياض. واعرف ان شعر الغزل في الغالب الاعم هو ما تصل به النشوة ذروتها عند الجمهور. ولكن اي شعر غزل يمكن ان يقال واي جمهور سينتشي ونحن نعيش هذه الظروف المحيطة بنا.. واعرف ان شعر الحماس للدين والوطن يستثير الجمهور في مثل هذه الظروف المحيطة بنا؟ ولكن اي حماس يغني ان يستثار، وليس وراءه خطة عمل مدروسة؟ كانت لي مفاجأة ان استمع اليه يذكر في مقدمته للقصائد ان قصائد الامسية ستكون عن مدن لها اثرها الخاص في حياته، وانه اختار ان يكون عنوان شعره لتلك الامسية هو «الزمان يزور المكان».. وهذا العنوان يحمل سمة شاعرية جذابة، ولكنه في الوقت نفسه - وان جاء مجازا - عنوان يبعث التأمل لدرجة قد تصل الى التفكير القلق في الاطار الذي يكتنف حياتنا جميعا اطار الزمان والمكان. احقا يزور الزمان المكان؟ وهل يغدو ممكنا الا يزور الزمان المكان؟ ايخلو مكان من زيارة الزمان؟ ايمكن ان يغيب الزمان عن مكان ما ثم يعود لزيارته؟ اعرف تماما ان المنطق العقلي المجرد يفسد العبارات الشعرية اذا ما تعرض لشرحها او تأويلها. ولكن ما اردت شرحا للعنوان ولا تأويلا له. وانما استوقفني انه عنوان يستفز التأمل عند السامع ويقصي الخدر الذهني. وجاءت القصائد المختارة من قصائد المدن وكانت على التوالي «اخت مكة»، «اغنية للفارس والوطن»، «انت الرياض»، «العودة الى الاماكن القديمة»، «بيروت» و «الهفوف». والحديث في الشعر عن المدن ليس بالجديد خاصة في الشعر الحديث، ولكن ما اكتنف القصائد من ايحاءات تتصل برؤية الشاعر لهذه المدن في ازمنة مختلفة تتنوع فيها الملابسات وبالتالي تتنوع فيها المشاعر كانت هي ما يمس القلب. كانت ايحاءات القصائد متنوعة تمس القلب في نواحٍ تتصل بالايمان، وتتصل بالوطن، وتتصل بالانسان عموما. ولعل الخيط الذي ينتظم عمق هذه القصائد، وهو المزج بين الحديث عن الذات، والشدو بالايمان، والتغني بالوطن والمراوحة بين ما كان موجودا في زمن سابق وبين ماهو موجود في الزمن الحاضر «زمن قول القصيدة». القصائد تتحدث عن لندن، ولكن تسجل حواراً ما بين الشاعر وبينها فقصيدة «اخت مكة»ينبعث منها الاشعاع الديني وهي تحلق في اجواء المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلتقط ومضات سريعة من ذلك التاريخ مرتبطة بالايمان والنصر على الرغم من قلة العدد، ثم تقابل ذلك الالق بلمحة عن الزمن الحاضر: كتائب الله.. ترعاها ملائكة تسير ما بين منصور ومنتصر واليوم نحن غثاء السيل..ما كذبت مقولة نقلت عن صادق الخبر تستمر الابيات تصور الحب للمدينتين الشريفتين، كما تصور الحب للرسول الكريم. وهذا التصوير للحب مرتبط بالعاطفة الدينية، يستدعي صدى جميلاً للمدائح النبوية وتقاليدها الفنية في تراثنا الشعري. تحمل القصيدة هنا طابع الخشوع ومحاسبة النفس على ما تراه خطايا. يكتنف ذلك تصوير الايمان بالله تصويراً عميقا ينبع عنه هذا النوع من الحب. القصيدة الثانية «اغنية للفارس والوطن»، تستدعي للذهن صور الفروسية في ابهى سماتها، والقصيدة تتحدث عن بطل التوحيد جلالة الملك عبدالعزيز -طيبه الله ثراه-. وكيف جاء التوحيد يربط الوطن المشتت: في كل شبر دويلات مبعثرة هيهات.. يجتمع التوحيد.. والصغر جرد حسامك.. بالايمان ترفعه وبالشهامة لا بالغدر، ينتصر هنا في القصيدة مازال الموضوع يطرق الايمان، ويربط به عزة الوطن. وينبعث الحب للوطن بجميع ارجائه. الله! يا تربة حياتها امتزجت بالروح.. انت الهوى.. والعشق.. والوطر. لقد كان مدخل الشاعر الى النفوس في تلك الامسية، هو شعر يعبر عن الذات في عاطفتها التي يغمرها الحب نحو الدين ونحو الوطن. اما بقية القصائد وهي تتحدث عن المدن فقد كانت تربط ما بين معالم المدن وما بين الذات. وجاءت المقدمات النثرية تحمل جوانب مكثفة من سيرة حياة قصيدة «انت الرياض» تحمل الق الشباب، وقصيدة «العودة الى الاماكن القديمة» وهي تتحدث عن المنامة كانت تشير الى الكهولة: عدت كهلا تجره الاربعون فأجيبي أين الصبا والفتون وجاء الحديث عن الشيب وعن التغير الذي يحدثه الزمان في العاشق، اما المحبوبة فتبقى جميلة كما هي، وتتقمص المنامة صورة المحبوبة: ما تغيرتِ.. انت ليلى التي اعشق لكن تغير المجنون وفي تقاليد الشعر العربي في الغزل «واخذ عنه ذلك ايضا التنظير النقدي القديم للغزل» يظل للمحبوبة الصورة المثلى في الجمال الكامل. فلا غرابة هنا اذا هي لم يمسها الزمان بسوء! ويسائل الشاعر المحبوبة ان كانت تتذكر وجهه ام غيرته بصمات الزمن «نكرته هذي الغضون»؟ اتذكرت يا حبيبة وجهي ام ترى نكرته هذي الغضون؟ ثم يعلن انها ان نسيت عهده فلن يعتب، فهي لها «شأن الحسان قلب خؤؤن»!. مرة اخرى، من تقاليد كثير من الشعر العربي في الغزل ان يكون الحسان شأنهن نسيان العهد! وان يكون لهن «قلب خؤون»! وهنا لن اتولى الدفاع عن «الحسان» ولا عن غير الحسان، ولن انسب هذا الى تحيز ضد المرأة ولكنها تقاليد الشعر. وتراث الشعر، ولا جدل في ان النقاش المنطقي يفسد الشعر تماما. ولكن اضفاء سمة المحبوبة في خطاب المدينة هنا تجعل سؤالاً يطوف بذهني هل تأتي صورة المحبوبة للمدينة لمجرد كونها لفظاً يحمل سمة التأثيث في معجم العربية؟ ام ان المدن بطبيعتها تحمل في نفس الشاعر سمة المرأة، من هنا قد تكون محبوبة كما في هذه القصيدة، او اما كما جاء في قصيدة «الهفوف»؟ او في صورة امرأة حسناء قوية لا تشيب على الرغم من مرور السنين كما جاءت صورة عمورية في قصيدة ابي تمام المشهورة: من عهد اسكندر او قبل ذلك قد شابت نواصي الليالي وهي لم تشب في قصيدة بيروت «مرثية الناي والريح» كان الشعر عن الالم الذي بعثته بيروت بعد ان حلت بها الحرب الاهلية، ودمرت ما دمرت فيها. وهنا تتغير الصورة عن الصورة السابقة بالنسبة للمنامة، ثمة تجانس بين ذات الشاعر وبيروت، كلاهما يحمل آثار فرق ما بين الزمنين، زمن اللقاء الاول الجميل بين الشاعر وبيروت، وزمن اللقاء الثاني حيث يبدو كلاهما خسر شيئاً: كيف ضاع الشباب منك ومني فقنعنا بذكريات الكهول تومض في القصيدة لقطات خاطفة لجوانب متمازجة من خراب بيروت زمن اللقاء الثاني ومن تألق بيروت زمن اللقاء الاول حين كان الشاعر تغمره نشوة الشباب. ويتمازج تصوير المدينة في تألقها الماضي، وما تعانيه من هول الحاضر «زمن قول القصيدة» بتصوير الذات في كلا الزمنين: فر مني طفل شقي وسيم واتى الكهل بالوقار الثقيل تتهادى سلمى بقربي وهند غير اني محنط في ذهولي هذا الشباب المفقود يبعث الالم الشعري! وخرائب بيروت تبعث الالم من اجلها. مع هذا ثمة امل يقابل بيروت بالعودة صبية، اما شاعر القصيدة فلن يكون له غير سراب جميل: ستعودين انت بنتا..ولكن عودتي للصبا.. سراب جميل وفي قصيدة لندن تظهر المفارقة بين الاماكن التي لم تتغير وشاعر القصيدة الذي تغير. ويأتي السؤال بسيطا غاية البساطة ولكن لا جواب له: لماذا تشيب وتبقى الشوارع ليس تشيب؟ ويبدو غريبا لشاعر القصيدة ان يكبر وان يتغير «أأكبر وحدي..»؟ وتظل عيون المحبوبة لا تكبر وتظل الشوارع «ليست تشيب». وفي قصيدة «الهفوف» يتكرر الحنين الى الصبا والالم الشعري لهذه الكهولة التي جاءت دون ان يدعوها احد.. اتذكرين صبيا عاد مكتهلا مسربلا بعذاب الكون.. مشتملا هنا تغدو «الهفوف» اما للشاعر وتحمل القصيدة حواراً بين الابن والام من طرف واحد يوجه الشاعر الخطاب اليها يشكو ويعبر عن قلقه الدائم الذي يستفزه للضرب في الافاق.. تستدعي القصيدة صوراً من التراث الشعري القديم في مجال البطولة.. وحين يشكو الشاعر بعد ذلك من «الستين»: اشكو اليك من الستين ما خضبت من لي بشيب اذا عاتبته نصلا؟! تهامس الغيد «يا عمي» فوا أسفاً اصير عماً.. وكنت اليافع الغزلا تتداعى هنا صور من التراث الشعري من موقف الشعر القديم من الشيب ومن «الغواني» اذا ما دعون الشاعر «عمهن». ويأتي نصف القصيدة تقريبا محملاً بهذه النجوى، وتبدو مماثلة لجانب من مقدمات القصائد في شعرنا القديم التي تعبر عن شعور الذات العميق بمدى هيمنة الزمن على الانسان، متخذة سبيلها الى ذلك مظهر الشكوى من الشيب، والشكوى من فقد اعجاب الغواني. اما نصف القصيدة الآخر فيأتي الخطاب فيه للام محملا بالشكوى مما هو موجود في الامة اليوم في بيت المقدس: يفدي الصغار بنهر الدم.. مقدسنا ما لي اقلب طرفي لا ارى فيه رجلا؟! *** اسطورة السلم.. مازلنا نعاقرها.. يا من يصدق ذئبا صادق الحملا! لقد كان عامداً - حسب ما اظن - ان تكون هذه القصيدة هي آخر قصيدة في الامسية. لعله اراد ان ينعكس القلق الذي صاحب هذه القصائد، ليستفز التأمل ويبعث على التفكير في امورنا، أليس من حل غير الشكوى!؟ (*) أستاذ بقسم اللغة العربية/ كلية الآداب - جامعة الملك سعود