اطلعت على ما نشرته وسائل الاعلام عن لقاء معالي وزير الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد مساء السبت 27/8 بالأئمة والخطباء في مقر فرع الوزارة في الرياض.. وتأملت كلمة معاليه التوجيهية فاستوقفتني كثيرا بعض الموضوعات التي تطرق لها مما جعلني أعزم على ان أكتب هذه الأسطر وبخاصة ان الصحف تناقلت خبر تنفيذ الوزارة لبرنامج العناية بالمساجد ومنسوبيها. لقد تطرق معاليه للعلم النافع، وحذر من تنامي التدين بالشك ومسألة في مبدأ التناصح.. وخشي ان تطغى ظاهرة النقد والغيبة على ذلك المبدأ.. وموضوعات أخرى تتأكد حاجة مجتمعنا لها يوما بعد يوم نظراً لأن العدو يتكاثر ويتحد وبعضنا يعمل - مع الأسف الشديد على ان نتناقص ونفترق.. وفيما يلي شجون حول ذلك راجياً ان يتسع صدر معاليه وصدر فضيلة المدير العام لفرع الوزارة الشيخ عبدالله بن مفلح وصدور القراء والأئمة والخطباء. أولاً: ان مسألة تطوير الذات علمياً وواقعياً تتأكد كل لحظة في عصرنا هذا الذي تتطور فيه المعارف بشكل لم يسبق له مثيل، فلقد أصبح التسلح والتزود بعلوم القرآن على بصيرة ضرورة اجتماعية وحضارية سواء للمسؤول أو الامام أو الخطيب أو حتى أفراد المجتمع.. والعلم في الاسلام منهج ممتد لمنهج المعرفة فلما كانت رسالة الاسلام فاتحة لعهد الرشد البشري كان اهتمامها بالعلم كبيرا وبالغا إذ بدأ الوحي بالأمر بالقراءة والاشادة بالعلم وحينما أقسم الله تعالى بالقلم دل على ما للعلم من قيمة ومكانة بل اعتبره القرآن عنصراً من عناصر تكوين الانسان وسرا من أسرار تكريمه وانزال القرآن مفصلا على علم منهج للبشرية يصل بها وتصل به الى الرشد والنضوج والعلم الذي يشيد به القرآن ويدعو اليه هو المعلم بمفهومه الشامل الذي ينظم كل ما يتصل بالحياة وأصله وأهمه علم العقيدة والشريعة.. وحينما ينتكس العلم الحديث بانحرافه عن منهجه الرباني فإنه يقطع الصلة بينه وبين مصدره ويسقط من حسابه ذلك الارتباط الوثيق.. وقد حذر القرآن من هذا الانحراف الذي وقعت فيه بعض المجتمعات.. وها هم مفكروها ينادون بالرجوع الى الايمان والاستبصار، ذكر «أ. كريس موريسون» رئيس أكاديمية العلوم ب«نيويورك» في كتابه العلم يدعو الى الايمان من ان المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتفتح مجالا للايمان بوجود مدبر جبار وراء ظواهر الطبيعة، ونقل ما قاله «سومرست موم»: «إن أوروبا اليوم قد نبذت إلهها وآمنت بإله جديد هو العلم، ومشكلة العلم انه متقلب يثبت اليوم ويُنفى غداً ولذا تجد من يعبد العلم في قلق دائم لا يستقرون».. وإن ما نخشاه ان نطلق العنان لأفكارنا بدون الرجوع الى الأصول ونستكفي باستدلالاتنا من نتاج هذه الأحداس والظنون غير مالكين أدوات فهم الأدلة التي سلكها علماؤنا الأقدمون.. في الوقت الذي نثبت فيه للعالم عجزنا عن التقدم العلمي المادي فننفي عن الانسان الصلة الالهية وتكريمها ونعود به الى أصل حيواني. ثانياً: تطرق معالي الشيخ صالح الى ظواهر هي في حقيقتها ذات خطر كبير على تماسك المجتمع ووحدة الصف إذا ما هي تفشت وقل التناصح لدرء مفاسدها، ومن هذه الظواهر تنامي التدين بالشك.. وذلك لا يصيب في الغالب إلا المتشاءم من دنياه المتكاسل عن العمل، يتكل على الآخرين دائم التألم من الماضي ويتذمر من الحاضر ونظرته سلبية تشاؤمية للمستقبل.. وهذا هو الانسان السلبي الذي يتعب نفسه وتتعبه الحياة مع ان المشكلات تصيب السلبي والايجابي إلا ان هناك فرق بين رؤية كل منهما فذاك يكبرها ويرددها بل لا يرى غيرها أما الايجابي فيراها طبيعية وان كل مشكلة وراءها خير! وهنا وقفة هامة وهي ان الله تعالى له سنن كونية يقدرها ومن هذه السنن ان الذي يتوقع سوء الآخرين أو أنه سيحصل على نتيجة سيئة فإنه لن يرى في الآخرين إلا السوء ولن يحصل إلا على نتائج سلبية.. ولنتأمل معا الحديث القدسي:«أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» أي ان كان ظنك خيراً فسيحصل لك خير، وان كان ظنك سيئا فسيحصل لك سيئ أضف الى انه مما يحزن أنك تجد وتقابل أناساً في منتهى السلبية وهؤلاءتعرفهم بتشاؤمهم قبل حدوث المشكلة وتكبير المشكلات وتضخيمها بعد حدوثها.. وهذا لا يعني انه ربما يفوز واحد من هذه النوعية في لحظة ما أو قد يعتلي منصبا ويحقق مكانة اجتماعية أو مالاً.. نعم ربما يحصل ولكنه لا يدوم.. إذ إن الحياة تنحاز وتنجذب للايجابي كما تنجذب الأشياء الى الأرض.. وأنها تفر من السلبي وتنفر منه.. ومن القواعد التي بدأت تستقر في علم النفس وبخاصة المدرسة الادراكية. قاعدة «ان نوعية أفكارك تحدد نوعية حياتك» أو «تصرفاتك هي نتاج أفكارك» هذا من جهة ومن جهة أخرى ان هناك قاعدة ذهنية من قواعد التفكير الايجابي والتي تعني ان ما في مخيلتك وعقلك ليس بالضرورة هو الحقيقة والواقع.. فعندما ترى انساناً يتصرف بسوء فستبني انه خبيث السريرة ذلك لشعورك بها.. مع انه قد يكون يمر بظرف طارىء وهو في الأصل طيب الخلق والصفات فالفائدة من هذه القاعدة انه ليس كل ما تراه أو تسمعه أو تشعر به هو الحقيقة إذ لابد من التأكد تماما وما أكثر ما يقع البعض في هذا الخطأ حتى صار عندهم ديدنا وعادة.. فكل شيء يحدث لسبب معين وقصد معين والناس التي تفكر بهذه الطريقة يحصلون على نتائج عظيمة.. والأمر الذي يدعو للعجب ان بعض المسلمين لا يطبق هذه القناعة على الرغم من أنها من أصول العقيدة وأركان الايمان «إنا كل شيء خلقناه بقدر» وكل ميسر لما خلق له.. فأما الذين يرفضون ما يحدث فسيتنامى لديهم مبدأ العنف في تعاملهم مع أنفسهم والآخرين الأمر الذي ينشىء لديهم التشكيك والمخاوف والمشاكل.. ومن أعظمها مشكلة بل كبيرة «الغيبة» التي سأعرض لها في: ثالثاً: في حديث المعراج يقول المصطفى:«.. لما عرج بي الى ربي - عزوجل - مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم» فسأل - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام «من هؤلاء» قال:«هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». أما يرى هؤلاء الذين يتلذذون بأكل لحوم اخوانهم هذا التصوير المريع الرهيب؟ أما ان لمجتمعات المسلمين ان تخلو من هذه الجريمة النكراء والرذيلة الشنيعة؟ والمجالس من تعاطي هذه الفاكهة الفاسدة العفنة التي تخمر فيها جراثيم الانحلال التي قال عنها ابن عباس رضي الله عنه إنها إيدام الكلاب، أما يروا أنهم كما شوهوا الناس وذكروا عيوبهم وهتكوا سترهم فها هم يشوهون أنفسهم بأنفسهم، أظفار رهيبة تخمش الوجوه التي هي مجامع المحاسن، فيها الأعين والأنوف والأفواه والجباه..!؟ وهل سبب الجريمة اختلافاتنا في الرأي ووجهات النظر..؟ إن الاختلاف أو الخلاف هو سنة.. فلماذا لا نتفق عليه؟ فإذا اتفقنا على وجوده فمهما تكن اختلافاتنا فنحن متفقون، وذلك ان لكل منا شخصيته المميزة، ونظرته الخاصة للحياة، وكل منا يفضل أشياء معينة، ويفسر الأمور من منظوره الخاص، ولأننا تربينا وتعلمنا أن نفكر بطرق معينة، فإن لكل منا أسلوبه الخاص في فض المنازعات، ونظرياته الخاصة في تفسير أسباب حدوث الأشياء، وما يراه البعض مهماً قد لا يكترث به الآخرون، ولكل شخص القدرة على انتقاد وايجاد الأخطاء في أسلوب تفكير وتصرفات الآخرين، ويمكن لكل شخص ان يثبت ان نظرته واقعية عن طريق التركيز على بعض الأمثلة التي تؤيد وتدعم ما يقول أو يعتقد، أي ان كل شخص يرى ان نظرته للحياة صحيحة ومنطقية، ولها ما يبررها، والمشكلة ان هذا الأمر لا يقتصر على شخص دون آخر. فلماذا إذاً - وكلنا يعرف ذلك - يستمر الاحباط والضيق لدينا بسبب أننا نختلف كثيراً؟ ولماذا نغضب بسهولة عندما يعبر شخص نعرفه أو نحبه عن رأي مغاير، أو وجهة نظر مختلفة، أو يفسر شيئاً تفسيراً مختلفاً، أو عندما يرى أننا على خطأ. رابعاً: أشار معاليه الى ان نجعل التناصح بديلا عن الغيبة والنقد.. لماذا لا نتناصح فعلا؟ لماذا يرفض الكثيرون التناصح؟ إن الأشخاص - عموماً - كثيراً ما يرفضون النصيحة حتى وان كانت نصيحة مفيدة، وهذه حقيقة لا يمكن اغفالها، فحتى عندما تكون هذه النصيحة مجانية، يملؤها، الود يرفضونها. أنظر الى نفسك والى عدد المرات التي صارحت فيها نفسك سراً أو جهراً بأن هذه الفكرة صائبة حيث تمثل طريقة أفضل بكثير من تلك التي كنت تتبعها للقيام بالأشياء، هذا النوع من التواضع غير متواجد في ثقافتنا ولكن فكر في الحكمة الموجودة هنا! فإذا أردنا التقدم يجب ان يختلف منظورنا للأشياء وألا نقدم على تكرار أفعال معينة مرات ومرات على الرغم من كونها لا تثمر، وبدلاً من ذلك يجب علينا ان ندرك وسائل أُخر جديدة ومتطورة للقيام بالأشياء، ولكن كيف نجعل نظرتنا للأشياء مختلفة في حين أننا نرفض تقبل أي اقتراح من الآخرين؟ والاجابة تبدو واضحة. إن السبب وراء عدم استماعنا للنصيحة في بعض الأحيان هو العناد الشديد واصرارنا على القيام بالأفعال بأسلوبنا الخاص حتى وان لم يكن مجدياً، وفي أحيان أخر يرجع السبب الى الخوف من ان يبدو سيئا في نظر الآخرين أو نبدو غير أكفاء في نظرهم، وقد يرجع السبب الى اعتقادنا بأن هذه النصيحة لن تساعدنا طالما أننا لم نستطع التوصل إليها فكيف للآخرين، ان يفعلوا؟ وربما يرجع هذا الى استماعنا الى نصيحة سيئة أو كثير من النصائح غير المفيدة ومن ثم فلن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى. خامساً: عرض الوزير الى مسألة القنوت الدعاء وضرورة العناية به والحق ان الدعاء كما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم هو العبادة أو هو مخ العبادة يأمر به القرآن ويأمر بإخلاصه لله ويجعله دليل العبودية.. ولذا كان للدعاء الأثر التربوي الكبير فهو ثمرة للمعرفة والايمان بمنهج القرآن وفكرته عن الكون وشعور عميق بالعبودية والفقر والحاجة الى الله، ففي الدعاء تذكير للنفس بحقيقة فقرها الى الله وصلتها به ومن ثم كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - دعاء دائما يدعو مع كل عمل وكل حركة بالليل والنهار وله دعوات مأثورة كان يلازمها ويعلمها أصحابه.. ويجب ان ندرك ان الدعاء هو سبيل القوة الحقيقية، لأنه احساس يأتي على كل ما في النفس من قوة وثقة وعزيمة على السير الى نهاية الطريق احساس يملأ النفس سكينة وراحة ويمدها بالقوة الحقة والعزم والمضاء والثقة.. أليس أمر هذا شأنه ينبغي ان نهتم ونعتني به.. ان نحرص على جوامعه.. ألا نتعدى فيه ولا نبتدع؟! وأخيراً كنت وددت أن أقف في ختام هذه الأسطر مع ما وجه إليه الشيخ الحامد مدير عام الفرع في اللقاء نفسه في قضية التركيز على كل ما يجمع ولا يفرق وبخاصة ونحن في زمن كثر فيه المتربصون المستهدفون ديننا ووطننا ولكني رأيت أن هذه الكلمة مع وضوحها الجلي إلا أنها تحتاج الى أبسط مجموعة من أسباب التفرق والتي يعمل لأجلها البعض وربما عن حسن قصد.. أسأل الله تعالى أن يوفق لبسطها في مناسبة أخرى..إذ لا يتسع المقام هنا لبسطها.. كما أسأله تعالى أن يكلل الجهود بالنجاح والتوفيق ويجزي أئمتنا وخطباءنا لقاء ما يبذلون وأن يجعل أعمالهم في ميزانهم يوم القيامة. د. سليمان بن محمد الصغير أستاذ الثقافة الإسلامية بالكلية التقنية بالرياض