أحدث الشاعر الناقد الإنجليزي، الأمريكي الأصل، (توماس إليوت) تغييرًا جذريًا في الشعر الإنجليزي؛ فاستطاع -بحسب أحمد مروان في موقع ميدل إيست أونلاين- أن يحيي أمجاده، ويقيم له وللثقافة عمومًا مجدًا فيما بين الحربَين العالميتَين. في السياق، لا يكاد يذكر اسم إليوت إلا مقرونًا بالحداثة، والحداثةُ -في عُرف البعض- تعني فيما تعني الإقبال على الجديد من منجزات العصر، والانصراف -كليًا أو جزئيًا- عن الماضي وتراثه المادي والفكري والديني، وكل ما يربط الإنسان -زمنيًا- بالماضي ومخرجاته. في حين الحداثة لا تعني الانفصال عن الماضي، ولا تعني مجافاته أو مخاصمته، وإنما تعني البدء من حيث انتهى السابقون والاستفادة من تجاربهم ومنجزاتهم، والبناء عليها لاستكمال جسد الحضارة المتعاظم. المفاجأة -التي يتجنبها البعض وربما يجهلها- عند الحديث عن إليوت لا تكمن في شاعريته أو في مقدار التغيير الذي أحدثه في الشعر الإنجليزي؛ وإنما تكمن في (تديُّنه) الذي لا يحضر لديهم بالتوازي مع شاعريته عند حديثهم عنه؛ فكونه تربعًا على هرم الحداثة والتجديد، فهذا يعني -في العُرف العربي السائد- عدمَ تماس المبدع الحداثي مع مظاهر التدين، ويعني أن الثقافة ينبغي أن تقوم بمعزل عن الدين، بحيث لا يبقى بينها وبينه قواطع ومشتركات، لكن إليوت خالف ذلك كله؛ فأكد أن ارتباط (الثقافة بالدِّين) أمر لازم وحتمي، وهو الارتباط الذي سلَّط عليه الضوءَ المفكرُ السعوديُّ (زكي الميلاد) في كتابه (المسألة الثقافية.. من أجل بناء نظرية في الثقافة - 2005م)؛ حيث كشف عن أن إليوت قدم شبه نظرية حول العلاقة بين (الثقافة والدين) وشرحَها في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، وتوصل الميلاد إلى أن إليوت «كان يحاول بناء نظرية بقصد تعميق العلاقة بين الثقافة والدين؛ ليكون الدين حاضرًا باستمرار بروحانيته وتراثه وتاريخه وقيمه في كل محاولة لتعريف الثقافة، أو تكوين فكرة عنها». وقد عمد الميلاد لتتبع هذه النظرية واستنباط محدداتها، ومن ذلك أن كل ثقافة ظهرت كانت إلى جانب دِين، وفي هذا يورد الميلاد قولَ إليوت «لم تظهر ثقافة ولا نمت إلا بجانب دين»، وأن هناك خطأ في الانفصال الكلي بين الثقافة والدين، وآخر في المطابقة بينهما، وأن الانقسام في الدين وتفرقه يترتب عليه انقسام في الثقافات، وأن المسيحية كما يرى إليوت هي التي جعلت أوروبا على ما هي عليه، حتى إنه (إليوت) جاهر بأنه «ما كن يمكن أن تُخرِّج فولتير أو نيتشه إلا ثقافة مسيحية»، بل لا يظن أن ثقافة أوروبا تبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي اختفاءً تامًا، وغير ذلك من المحددات التي استنبطها الميلاد ولا يتسع المجال لسردها. ثم يخلص الميلاد إلى العناصر التي أثرت في تكوين هذه النظرية ويرجعها لأصلَين: الأول- يعود لطبيعة (النزعة الدينية المحافظة) في شخصية إليوت. والأخير- يعود لظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية وما تركت من حالة تمزق وتشتت في المجتمع الأوروبي، لذلك حاول إليوت -كما يذكر الميلاد - أن يربط مصير الثقافة الأوروبية بالدين؛ وذلك لغايتين: الأولى- على اعتبار أن الدين هو الضمان الوحيد لوحدة الثقافة الأوروبية وتماسكها، والأخيرة- ترتبط بدور الدين في تهذيب الحضارة الأوروبية وانتشالها من الانحطاط الروحي والإفلاس القيَمي الذي وصلت إليه. يأتي تدين إليوت -وهو الحداثي- ليصحح المفهوم، ويعمل على (فرملة) الاندفاع لدى بعض المثقفين العرب الذين لا يرون من الألوان إلا (الأسود والأبيض)؛ فإما ثقافة منسلخة من أي مظهر للتديُّن، وإما تديُّن لا يتقاطع مع الثقافة. إليوت بهذه النظرية -التي تَبيَّن لنا من خلالها تديُّنه الجليُّ- وهو من هو رمزًا بارزًا في الحداثة يلحق بسواه من (الساسة والزعماء والفلاسفة وعلماء الطبيعة والفنانين والرياضيين...) الغربيين الذين لم يتواروا خجلاً من تدينهم بحجة الحداثة والمعاصرة؛ بل جاهروا به في مواقف عديدة، وبينوا أن بينه وبين صنعتهم تقاطعًا حاصلاً، وأكدوا حضوره وأهميته لصنعتهم، حتى رأينا الرياضي المسيحي يجاهر بحركة (التثليث) في الملعب -وليس في الكنيسة- دون مواربة أو خجل، ولم يخشَ من أن يوصم بالتدين، في حين يخجل بعض المثقفِين العرب المسلمِين من وضع (البسملة) في صدر مؤلَّفه؛ خشيةَ أن يوصم بالتدين أو الرجعية والماضوية، فضلاً عن أن يرى تقاطعًا حاصلاً بين الثقافة والدين، أو يرى الدين عنصرًا أساسًا في جسد الثقافة.. ولا أقول مهيمنًا عليها. ** **