جاء إعلان سمو ولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عن تطوير منظومة التشريعات المتخصصة، ليؤكد أن المملكة العربية السعودية تسير في السنوات الأخيرة خطوات جادّة نحو تطوير البيئة التشريعية، والتي شملت (المعاملات المدنية، والأحوال الشخصية، والعقوبات التعزيرية، والإثبات)، لنبرز مدى تأثير تلك التطويرات من تعزيز مدنية الدولة بما يسهم في زيادة الثقة في الإجراءات النظامية والقضائية وتحسين آليات الرقابة عليها، وذلك من خلال المحاور الآتية: - المحور الأول: التزام المملكة وولاة أمورها بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة -رضوان الله عليهم- والمدرسة الفقهية فيما تعرف بالقواعد الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة، واستناد الأحكام إلى هذه المنهجية الشرعية منذ توحيد المملكة العربية السعودية على يد جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وما أعقب ذلك من تطور قضائي ممنهج. من وجهة نظر تاريخية نجد أن النظام القضائي في المملكة العربية السعودية يعتمد على الشريعة الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ونتيجة للاعتماد على الشريعة بدون تدوينها، إضافةً إلى عدم الاعتماد على السوابق القضائية، وترك مجال الاجتهاد مفتوحاً لكل قاضٍ بدون ضوابط معينة، أصبحت هناك حالة من الغموض تحيط ببيئة العمل القضائي في المملكة، وبدأ توجيه عين النقد للنظام القضائي في المملكة بأنه نظام بطيء يخلو من الضمانات الحقيقية ولا يتواكب مع مجريات العالم الحديث، ونتيجةً لذلك أصدر الملك عبدالله عام 2007م مرسوماً ملكياً يقتضي إجراء إصلاحات واسعة على القضاء وتأسيس نظام قضائي جديد، وقامت الحكومة بالإفصاح عن نيتها في تدوين قواعد الشريعة الإسلامية عام 2010م، وقد أثمرت تلك الجهود أنه في عام 2018م تم نشر كتاب مرجعي للسوابق والمبادئ القانونية، إلى أن تم الانتهاء من هذه الإصلاحات مع إطلاق المحاكم العمالية في 25 نوفمبر 2018م، وفي عام 2020م تباعاً ومسايرة لخطة الإصلاحات في مجال حقوق الإنسان تم تقليص صلاحيات الأحكام التعزيرية المتروكة لتأويلات القضاة، ومن ذلك -على سبيل المثال- إلغاء الجلد التعزيري بالقرار رقم (40-م) وتاريخ 24-6-1441ه، والذى لقي ترحاباً شديداً على مستوى المهتمين للعمل القانوني، سواء القضاة أو المحامون، كما لقي قبولاً وترحاباً شديداً من شعب المملكة. وتلك التنظيمات الجديدة ليست بدعةً لا سند لها، بل لها سندها الشرعي المتمثل في فعل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- حين جمع الناس على مصحف واحد (أُطلق عليه المصحف الإمام) وحُرِق ما عداه، وذلك حتى يجمع الناس على قراءة واحدة لكي لا تكون هناك فتنة بين الأمة على قراءة القرآن، وقد وافقه الصحابة على ذلك، فصار إجماعاً سكوتياً، ورُوي عن الإمام علي قوله «لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان»، فتلك التشريعات غايتها والهدف منها توحيد الأحكام القضائية باختيار رأي فقهي صحيح ومعتمد، ووضعه في نص نظامي يلتزم به القضاة في أحكامهم. - المحور الثاني: موافقة التنظيمات الجديدة لأحكام الشريعة الإسلامية وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والآراء الفقهية المعتبرة والمعتمدة: ومع تسارع الخطى في المملكة نحو القمة أولى سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- اهتمامًا كبيرًا للإصلاحات التشريعية التي بدأتها المملكة لرفع كفاءة الأنظمة وتحسين جودة الحياة والارتقاء بالخدمات وحماية حقوق الإنسان، والتي تأتي في إطار منظومة الإصلاحات التي تبنتها رؤية المملكة2030م، لذلك كانت الحاجة داعية لاستحداث وتطوير تشريعات خاصة للحد من التفاوت في الأحكام القضائية والتناقض والتعارض بينها، وتعزز شعور أفراد المملكة بالعدالة وثقتهم بالسلطة القضائية، وهذا ما أكده ولي العهد حين قال «إن عدم وجود هذه التشريعات أدى إلى تباين في الأحكام، وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، ما أدى إلى طول أمد التقاضي الذي لا يستند إلى نصوص نظامية»، حتى وصلت مدة نظر بعض القضايا إلى عشرات السنين، وهو ما أرهق القضاة والمتقاضين على حدٍّ سواء، وهناك مقولة تقول (العدالة البطيئة ظلم)، وقد أكد سمو ولي العهد على ذلك بقوله إن «ذلك كان مؤلماً للعديد من الأفراد والأسر، ولاسيما للمرأة، ومكّن البعض من التنصل من مسؤولياته، وهو الأمر الذي لن يتكرر في حال إقرار هذه الأنظمة وفق الإجراءات النظامية»، وقد تناولت تلك التشريعات الحديثة التي أعلن عن تطويرها أربعة مشاريع؛ الأول نظام الأحوال الشخصية، والثاني نظام المعاملات المدنية، والثالث النظام الجزائي للعقوبات التعزيزية، والرابع نظام الإثبات. - المحور الثالث: مزايا التنظيمات الجديدة: لا شك أن إطلاق المنظومة الجديدة يعد حدثاً تاريخياً في حياة كل السعوديين وحياة المملكة بأسرها، لاسيما وأنها جاءت لتواكب احتياجات المجتمع وتطلعاته ومتطلبات العصر، فالعالم اليوم أصبح وبحق قرية صغيرة، وتلك التنظيمات جاءت تأكيداً على التزام المملكة وولاة الأمر فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة -رضوان الله عليهم- وأحكام الشريعة الإسلامية، وقواعدها العامة، وقد أضفت تلك التطويرات بعض المميزات، وهي: - أولاً: نجد من خلال توجيهات القيادة الرشيدة في التطورات التشريعية الحديثة أنه تم الاستعانة فيها بأحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة، بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، لتؤكد أنها بنيت على ما تقوم به هذه المملكة المباركة من الحكم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو ما يظهر جلياً من خلال النظر إلى النظام الأساسي للحكم في مادته الأولى، والتي تنص على «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم». ثانياً: التنظيمات الجديدة تهدف إلى الحد من تعارض وتناقض الأحكام القضائية: وذلك من خلال رفع النزاع الفقهي واختيار رأي واحد فقهي ووضعه في نصوص نظامية من أجل توحيد الاجتهاد القضائي، فالمحكمة العليا معنية بالمحافظة على وحدة تفسير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة في الدعاوى التي يفصل فيها القضاء، وبالنظر إلى فكرة مشروع الأنظمة المعلن عنها نجد أنها تهدف إلى وحدة تطبيق القواعد الشرعية والنظامية على الدعاوى، فلا شك أن ترك الفصل في النزاع على حسب اجتهاد القضاة للمعروض عليهم، ترتب عليه وجود تعارض وتناقض في بعض الأحكام الصادرة عنهم، ولكن من خلال مشروع الأنظمة الجديدة سوف يقضي بحصر دور المحاكم في تطبيق النص النظامي، ونجد أن ملخص فكرة المشاريع الجديدة لا تخالف أحكام الشريعة، وغاية الموضوع أن ولي الأمر رفع النزاع الفقهي والاختلاف بين القضاة واختار رأياً واحداً (فقهي)، وقام بوضعه في نص نظامي حتى تتوحد الأحكام ولا تتعارض أو تتناقض، وسوف تؤدي التشريعات القضائية المتخصصة إلى ترسيخ مبادئ العدالة والشفافية، وضمان الحقوق لأصحابها. ثالثاً: التنظيمات الجديدة تم الأخذ فيها بأحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة، بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها الشرعية: قد يتخوف البعض من أن تلك التشريعات فيها بعض الاقتباس من التشريعات الوضعية، إلا أنه من الجدير بالذكر أن تلك التشريعات قد تم الاعتماد في إعدادها على أحدث التوجهات القانونية الدولية المتعلقة، بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية ومع مبادئ المملكة وقيمها، ودستورها النابع من القرآن وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقّق التنمية الشاملة، وتعزّز تنافسية المملكة عالمياً، ولا شك أن ذلك كله يعكس النهج القويم الذي تسير عليه المملكة في ترسيخ العدالة وضمان الحقوق. رابعاً: تهدف التنظيمات الجديدة إلى رفع كفاءة وتطوير الجهاز القضائي للمملكة: من أهم مزايا التنظيمات الجديدة وأهدافها رفع كفاءة الأجهزة العدلية، وتعزيز النزاهة، ومكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان، وستقضي على الاجتهادات القضائية المتناقضة بتوحيدها بما يعزز أسس العدالة الناجزة، ويقضي على أي إشكالات نتجت عن وجود فراغ تشريعي، فلا شك أن اختلاف اجتهاد القضاة فيما يعرض عليهم من قضايا ترتب عليه وجود تعارض وتناقض في بعض أحكامهم فيما يعرض عليهم من مسائل على الرغم من اتفاقها ووحدة موضوعها، ولا شك أن حصر دور المحاكم في تطبيق النص النظامي وتوحيد الاجتهاد القضائي سوف يحد ويقضي من التناقض والتعارض في الأحكام الصادرة منها، ولاشك أن أثر ذلك سيعود على القضاة من رفع كفاءتهم، من خلال أنها تضعهم جميعاً على خط سير عمل واحد ومنظم، وتسهم في رفع كفاءتهم، كونهم سيكونون قضاة متخصصين، وسوف تؤدي إلى تنظيم اجتهاد القضاة وليس إلغائه، كما سيعود ذلك بالنفع على أفراد المجتمع وزيادة ثقتهم في القضاء والقضاة، من خلال ترسيخ مبادئ العدالة والشفافية وتعزيز النزاهة، وزيادة الثقة في العملية القضائية. خامساً: ستسهم التنظيمات الحديثة في رفع كفاءة القضاة وجعلهم قضاة متخصصين: القضاء هو الجهة المخولة بإصدار الأحكام الشرعية، التي لا تفرّق بين أحد من أفراد المجتمع، وفي وجود مثل التنظيمات المتخصصة سوف تؤدي إلى رفع عناء التعب عن القضاة، وتيسر عملهم لأن النص سوف يكون واضحاً ومحدداً، مما يجعل التقاضي بصورة أسرع وأفضل وإيصال الحقوق وصيانتها لأصحابها أفضل وأيسر، فالقضاء هو رمانة الميزان وملاك الأمر في ذلك كله في يده، ومن أجل القيام بتلك المهمة السامية كان لا بد من توافر الأدوات اللازمة التي تمكنه من ذلك، ومن أهم تلك الأدوات التنظيمات المتخصصة الواضحة. سادساً: مزايا التنظيمات الحديثة للدولة وللمجتمع ومحاربة الفساد: التنظيمات الجديدة تحقق العديد من المزايا والفوائد للمملكة ولشعبها الكريم، حيث إن دولة تطبق شرع الله، ولها نظام قانوني واضح ومعلن، تبقى شامخة الهامة، وتزيد من الثقة العالمية في مستوى قضائها، فحسب تقرير التنافسية العالمي لعام 2019 حققت المملكة الترتيب ال16 عالمياً، متقدمة 8 مراكز عن العام السابق في مؤشر الاستقلال القضائي، وفيما يتعلق بمؤشر كفاءة الإطار القانوني لتسوية النزاعات، قفزت المملكة 4 مراكز، لتحل في الترتيب ال17 عالمياً، فيما بقيت على المركز ال11 في مؤشر «مواءمة الإطار القانوني للأعمال الرقمية»، وفي مؤشر كفاءة الإطار القانوني للطعن في اللوائح تقدمت 11 مركزاً ليصبح ترتيبها ال18 عالمياً. ومع تلك الخطوات التي تتخذها المملكة من وضع تنظيمات قانونية حديثة، سوف يسهم ذلك في زيادة الثقة في الإجراءات النظامية والقضائية، وتحسين آليات الرقابة عليها، وتحقيق المهنية والإيجابية، والوصول إلى الالتزام، وتطبيق التميز والشفافية، وذلك في إطار دعم مسيرة المملكة التنموية من خلال تطوير التشريعات الداعمة لها، ومراقبة تنفيذها، وفق أفضل الممارسات العالمية لتحقيق الثقة وإسعاد الأفراد داخل المملكة، وجذب وتنمية الاستثمارات سواء المحلية والأجنبية، كما سوف تسهم تلك التنظيمات في محاربة الفساد، لأنها سوف تضع قواعد واضحة وصارمة ورادعة لكل من تسوّل له نفسه مخالفة أيٍّ منها. وأخيراً -بحول الله- نتطلع إلى مستقبل مشرق وعدالة ناجزة ومستوى عالٍ من المخرجات القضائية، لتواكب هذا التحول التاريخي في نهضة المملكة العربية السعودية في المجالات كافة. أسأل الله أن يوفق قائد هذه المسيرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز إلى ما يصبو له أبناء هذا الوطن إلى خير وعزة ونمو وتطور، وبالله التوفيق. ** ** - الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد