تكلمنا سابقاً عن الخلفية النظرية للإرهاب الحوثي، متمثلة في منظومتها الثقافية التي ينطلق منها الكيانُ الإماميُّ البغيض، والحوثي آخر حلقاته، سواء ما تبدى منها في صورة فتاوى دينية، تخوِّل لأتباعهم قتل الآخرين واستحلال أموالهم ودمائهم، وللفتوى الدينية قداستها في نفوس ووجدان الكثير، أو ما تبدى في شعر ملحمي، يثيرُ في الشباب والناشئة روح الحماس والإقدام ومزيداً من التهور وإرهاب الآخرين. داعش القديمة حقاً.. تاريخ الكيان الإمامي هو تاريخ الإرهاب بكل تفاصيله منذ أول إرهابي، متمثلاً بالرسي، وانتهاء بآخرهم الحوثي، وبينهما عشرات المجرمين في أزمنة لم تكن قد ظهرت آلاتُ التصوير أو الصحف أو المنظمات الحقوقية لتوثق إرهابهم. إن كلّ مرحلة من حياة هؤلاء الكرادلة، المتسربلين بالدين زوراً وبُهتاناً، والمتسمين أئمة - وهم في الواقع أئمة زيف وإفك - تُعتبر ملحمة من الإرهاب والإجرام والانتهاكات بحق الإنسانية، لم يُوثق إلا النزر اليسير من توحشاتها، مما أثبتته أقلامُهم في الغالب، على سبيل التفاخر منهم، معتبرين ذلك ديناً، ومما أثبته المؤرخون بين الفينة والأخرى. وبين يدينا اليوم نموذجٌ جديدٌ من الملاحم الإرهابية الحوثية التي تحتذي طريق آبائها وأجدادها، مع محاولتها تحسين صورتها القبيحة أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، ومع شدة حرصها على إخفاء جرائمها عن عيون الكاميرات والراصدين والحقوقيين ورجالات الصحافة والإعلام، وجميعُ هذه المفردات لم تكن موجودة في السابق أثناء حكم من سبقهم من الأئمة الطغاة، فمارسوا الإرهاب والسحل والتنكيل كيفما راق لهم في ظل زمنٍ ومكانٍ مغلقين، لم تكن تعرف هذه المدينة ماذا يجري في المدينة المجاورة لها. لقد سبق الكيانُ الإمامي البغيض «داعش والقاعدة وبوكو حرام» وغيرها من الجماعات الإرهابية بقرون، وأتت ما لم تأتِ به من الجرائم الوحشية بحق الإنسانية، كما وثقت لنا بعضُ كتب التاريخ، وما وثقته هو القليل من تلك الصور الإرهابية، بدءاً بالمجرم الأول، يحيى حسين الرسي. وكذلك فعل الإمَامُ المهدي الحسين بن القاسم العياني في مواقع كثيرة، منها حين دخل صَنعاء وقَدْ أباحها لجنوده في شهر صفر 403 ه غازياً خصمه محمد بن القاسم الزَّيدي الذي طعنه وصَرعه في فج عَطان، وأمر العيَّاني أن تطأ الخيلُ جثة محمد بن القاسم وسائر القتلى بسنابكها حتى مزقتهم في التراب كل ممزق..» (1) ، ثم «إن بعضَ القَبَائلِ كانتْ قد خالفته حين سَار إلى «إلهان» (2) فلما رجع قبض على مَشَايخ تلك القبائل، وصَلبهم منكسين، ووهب خيْلهم وسِلاحهم لشيعتِه، وألزم جماعتَهم الجزيةَ وقبضَها منهم، وسَار إلى صَعْدَة في جيشِه فخربَ دُورها، وولاها أخاه جعفر..» (3) والحال ذاته لدى أحمد بن سليمان الذي يعلن مُفاخرا: وخرَّبت أسْواقاً لهم وصِياصياً وأغنيت مِن أموالهم جُلَّ أعْواني (4) وسبا السفاح عبد الله بن حمزة من نِساء صَنعاء في إحدى غزواته ستمائة امرأة، واقتسمهن أخوه وقائد جُيوشه يحيى بن حمزة مع قادة جيشِه ومقربيه في قاع طيْسان.!! (5) وفي عهد حُكم بيت شرف الدين، وتحديداً في عَهد المؤسس الأول لها المتوكل يحيى شرف الدين، أقدم قائدُ قواته، ابنه المطهر بن شَرف الدين على ارتكاب المجازر المروعة، حيثُ قَطع الأيدي والأرجل من خِلاف، وقتل الأسْرى، كما فعل مع أسْرى بِلاد عنس وخولان؛ بل لقد خالفَ أحكامَ الشَّريعة والأعراف السَّائدة، حين أقدم على قطع أيدي وأقدام ثمانين رهيْنة كانت تحت تصرفه بسجن القلعة، عقب انتفاضَة قبائل خولان ضده، من الأطفال المودعين لديه رهائن.! (6) ولم يكتفِ بذلك فحسب؛ بل لقد ذكر كاتب سيرته أنه «أخذ بلادهم، وفتح أغوارهم وأنجادهم، ودمر ديارهم، وقطع أعنابهم وأشجارهم، وتركها خاوية على عروشها، كاسفة بقطع غروسها، ولما استأصل بالمغروس والمعمور تركها خاوية بما ظلموا.. ودخلوا فيما حكم به لديه، فقبض من شياطينهم ثلاثمائة نفر أو يزيدون وأودعهم السجون، وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف..».(7) وكذا فعل مع قبائل من سحار وعمار ويام وعبيدة ووادعة في واحدة من أشْهر وقعاته الحربية معهم؛ حيثُ قتل منهم في معركةٍ واحدةٍ ألف قتيل، وأسَر ستمائة أسير، ثم أمر المطهر بالأسَارى، فضُربت رقابُهم عن آخرِهم. (8) أما مدينة عمران فقد دخَلها محارباً أهلها، فقتلَ فيها من قَتل، وأَسر من أسر «وعاد وقَدْ تركها أطلالاً دارسَة، وخرابات عابسَة، وغنم فيها سِلاحاً ونقداً وبقراً وغنماً وخيلا» (9)، وقَدْ بُنيت لأول مرة بعد هَذا الخراب سنة تسعمائة وتسعين للهجرة، على يد القائد العثماني سنان الكيخيا.!! وذات الأمر جرى في معاركه مع الطاهريين، سنة 941 ه، حين واجه جيوشَهم بقيادة الشَّريف يحيى السراجي، حيثُ «أُسر السراجيُّ، ثم ضُربت عنقُه، وقيل تم ذبحُه ذبحاً «وكان عَددُ القتلى من جيش عامر ثلاثمائة، والأسرى ألفان وثلاثمائة، وكان المطهرُ راكباً بغلته ورجاله يأتون إليه بالأسْرى أفواجاً، فيأمر بذبح كل زمرة لوحدها حتى غطى الدمُ حوافرَ بغلته، وبذلك بلغ عدد القتلى ألفاً وثلاثمائة، وعند الانتهاء من عمليَّة القتل الجماعي أمر بأن يحمل كلُّ أسِيرٍ رأسَ قتيل من رفاقه، وأشار بأن يسيروا حفاة الأقدام إلى صَنعاء، إلى مقر والده الإمَام يحيى شَرف الدين، فوصل الموكبُ في العشر الوسطى من جمادى الأولى من السَّنة المذكورة، وكان لوصولهم صَنعاء موقعٌ عظيم، فطاف الأسْرى بالشَّوارع والأزقة، حاملين رؤوسَ زملائهم، ثم أمر الإمَامُ بأن يتوجهوا بتلك الحالة إلى صَعدة، أما الشَّريفُ يحيى السراجي الذي وقع أسيراً فقد أمر المطهرُ بذبحه..» (10) إرهاب الإمامة القاسمية.. من شابَه أباه فما ظلم كانت الإمامة القاسمية امتداداً طبيعياً لما قبلها من الحكم الكهنوتي الغاصب، مضوا على نهج آبائهم وأجدادهم؛ إذ كتبَ القاسمُ بن محمد كتاباً إلى عامله في حجَّة، وفيه: «وكذا إذا تفضَّلتم أن تتقدموا إلى «حَجور» (11) وتخربوا بيت ابن عرجاش، وتنهبوا ماله، وتأخذوه خَاسِئاً حَسيراً ذليلاً، خاسِراً في الدنيا والآخرة، وأنتم تقدرون على ذلك» (12) وأيضاً: «وكذلك أخربوا أموال أهل بيت مأخوذ، وبيت جحوش وسحنة، أقماهم الله، «أحرقهم» وبعَّدهم من رحمته، وأسْكنهم النار، بحق جدي محمد رسُول الله» (13) وتأتي سِيَاسَةُ هدم المنازل، وإخراب السدود، وإحراق المزارع، وإتلاف المحاصيل ضِمن عَادةٍ تاريخيَّة، وثَقافَةٍ إرهابية درج عَليْها الأئمَّةُ في اليمن أجمع، من لدن إبراهيم الجزار قبل يحيى الرسي؛ حيث أخرب إبراهيم بن موسى الجزار سد الخانق في صعدة، وكان أكبر سد في صعدة يسقي مزارع الناس هناك. وقطعَ الرسي أعنابَ أملح ونخيلَها من بِلاد شاكر، وقطع أعناب حقل صَعْدَة بوادي علان ونخيل بني الحارث بنجران، وولده - الناصر أحمد أخرب أرض قُدَم كلها، ولم يسْأل عن بيت يتيم ولا أرملة ولا ضعيف، وأحمد بن سُليمان أخرب صَعْدَة القديمَة، وفي سيرة السفاح عبد الله بن حمزة أنه أخربَ العادية من بِلاد ظُليمة. وأمر القاسم بن محمد بهدم بيوت عرجاش، في حجور، وهدمَ المهديُّ صاحبَ المواهب جزءاً من جامع العامرية برداع، بعد أن تدخل الأعيان وقد سمعوا بنيته هدم الجامع كله، وكذلك فعل الإمَام إسماعيل بهدمِ منازلِ الهاربين من بيوتهم في الشُّعيب من بِلاد الضالع حين حاربهم هناك، وتخريب معاقلهم، حتى أذعنوا له، وعَمد الإمام الناصر محمد بن أحمد بن الحسن إلى تخريب دُور أهل الحيمة وخولان وقطع أعنابهم وأشْجارهم، لأنهم ناصروا منافسه يوسف المتوكل. وأمر قائد جنده صالح بن هادي حبيش بتخريب مدينة حوث، فخربها. وهدم يحيى حميد الدين دار زيد الموشكي في ذمار، وبيت القاضي جغمان في صنعاء، وهدم أحمد بيت اللقيَّة بداية الستينيات كذلك وغيرها الكثير.. (15) وقد نظم الزبيري قصيدة بعد هدم دار الموشكي، قَال فيها: يقول البردوني ملخصاً فترة يحيى حميد الدين: «لقد كانتْ ثُلثا أيام يحيى حميد الدين مذابحَ متوالية، وذعراً ممتداً في كل طَريْق وفي كل شَارع. وكانت تُسمى هَذِه الفترة «زمن ما بين الدولتين» دولة الأتراك الراحِلة، ودولة الاستقلال الناشئَة، وبينهما كالعادة مُنذ القدم تنتشر الإباحة الدمويَّة عن ثأرٍ أو طلب غنيمة وهِي فرصةُ النَّهبِ والانتقام الشَّخصي في مناطقنا القبليَّة، بل في شَوارع المدينة» (16) إلى جانب ما ذكر من الملاحم الإرهابية التي ارتكبها الكيان الإمامي البغيض، ويواصل المسيرة اليوم الحوثي، «كانتْ عمليَّة جمعِ الضَّرائب تمثل بحق أشْرس تعسُّف واضْطهاد للفلاحين، ليس فقط بسبب التقدير المسْبق للمحصولِ قبل حَصاده، أو لضرورة تحمُّل نفقاتِ أعضاء البعثة، وإنما - أيضاً - تعرضهم للقهر النفسي، والقهر الجسَدي أحيَاناً من قبل جُنود الإمَام. فلقد كان مجرد سَماع وصُول هَذِه البعثةِ إلى أيَّة مَنطقة يُثيرُ لدى سُكانها الرعبَ والهَلع» (17) ولهول هذه الفواقر والتصرفات الرعناء والهمجية التي اقترفها هذا الكيان بحق الشعب اليمني، خاطب العلامة ابن الأمير الصنعاني من يسمون أنفسهم أئمة وولاة في قصيدة طويلة، منها: الكيان الإمامي.. إبادات جماعية وإرهاب شامل كعادة الأيديولوجيات المتصلبة التي تنفي كلَّ من عداها، ولا تقبل إلا بنفسها فقط، تأتي الأيديولوجية الهادوية الإرهابية على رأس هذه الجماعات؛ حيث تعيش حالة «فوبيا» من كل من حولها، تنظر لمن عداها شزراً، متوجسة منه.. ونتناول هنا الفرق والجماعات التي تعرضت للإبادة الجماعية من قبل الهادوية الإرهابية، منذ المؤسس الأول وحتى اليوم. 1 - الإسماعيلية كانت الإسماعيلية أولى الفِرق التي تعرضت للإبادة الجماعية على يد الهادوية الإرهابية من وقت مبكر، منذ يحيى الرسي، وأبنائه من بعده، ثم بقية الأئمة المتعاقبين على الحكم. وكانت منافساً سياسياً يتخلق، بشعبية زاحفة، بحكم المكانة السياسية والروحية التي تبوأها كلٌ من ابن حوشب وعلي بن الفضل قبل أن يعلنا دعوتهما، ابن حوشب من «عدن لاعة» وعلي بن الفضل من «سرو يافع»، وقيل في مخلاف جيشان، وفق تكتيك مسبق اتفقا عليه في ساحل «غلافقة» من تهامة عقب عودتهما معاً من العراق. فشنوا عليها الدعايات السوداء أولاً، ثم لاحقوا عناصرها، وأبادوهم حيث وجدوهم. وكان من خرج على ظلم الإمامة أو علا صوته أسقطوا عليه تهمة الإسماعيلية بعد أن أسقطوا عليه كل قُبح وشين. وقد ذكر الشَّيْخ مجد الدين المؤيدي أن ليحيى حسين الرسي «مع القرامطة الخارجين عن الإسلام نيف وثمانون وقعة، كانت له اليد فيها كلها» (18) . هكذا ورد النص، وكان الرسي وأتباعه يعتبرونهم كفرة خارجين عن الإسلام، مع أنهم مسلمون موحدون. وحين هلكَ الرسي واصل نجله الناصر أحمد إرهابه وإبادته للإسماعيلية، كما تذكر المصادر التاريخية، ومنها ما ذكره المؤيدي بقوله: «ولم يزل الإمَامُ الناصر قائماً بأمر الله، مثابراً لأعداء الله، وأظهره الله على أقطار اليَمَنِ كافة، فصدعتْ فيه أحكامُ الملة الحنيفيَّة، وامتدت عليه أعلامُ السُّلالة المحمديَّة، واستأصَل أربابَ الدَّعوَة الملحدة من القرامطة الباطنيَّة، وقَدْ كانوا تحزبوا تحزباً، وارتجت منهم الأرض، فأخذتْهم سيوفُ الإمَامِ الناصر، قَتلَ في وقعة واحدة ثمانيةً وأربعين رئيساً من دعاتهم، وأمَّا العَساكر والأتباع فلم تنحصر القتلى منهم حتى جرت الدماءُ منهم جري الأنهار. قَال عبد الله بن عمر الهمداني، مؤلف سِيرة الإمَام وأحد فرسَانه: لقد شهدتُ الحرب، فما رأيت يوماً كيوم نُغاش (19) أكثر قتلى من أعداء الله القرامطة، ولقد حبستُ فرسي في موضع كثر فيه القتلى، فلقد سمعتُ خريراً للدماء كخرير الماء إذا هبط من صُعود..»! (20) وفي عهد الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد، الملقب بصاحب المواهب 1097 - 1130ه، حاربهم، ونفى من تبقى منهم على قيد الحياة من قبائل ذو خليل من همدان إلى الهند والصين عام 1101ه، الموافق 1689م، (21) ولم يستطيعوا العودة إلى ديارهم بعد ذلك، وبقوا هناك إلى اليوم. 2 - المطرفية المطرفية جماعة علمية فلسفية تشكلت في القرن السادس الهجري، فعكفت على العلم، وعلى إحياء قيم العقل والتخلص من الخرافات التي كانت تمتلئ بها بعض المراجع الدينية ولا تزال. وناقشوا ما يزيد على مئة وعشرين مسألة علمية لأول مرة، أقرها العلم الحديث بعد ذلك. وقد تخلوا عن خرافة العرق النقي والسلالة الأفضل، وقالوا بجواز الإمامة في أي فرد توافرت فيه شروط الإمامة المعتبرة عقلاً، قحطانياً كان أم عدنانياً، وليس منها شرط البطنين، فثارت ثائرة الهادوية الإرهابية، واعتبروهم خطراً يهدد كيانهم ومستقبلهم. وزادت حساسية الهادوية الكهنوتية تجاه المطرفية من كون المطرفية قد نشأت في نفس البيئة التي تعتبرها الهادوية حاضنتها الأم وحاميتها الرئيسية. وهو تهديد من الداخل له تأثيره الكبير لاحقاً، فتعاملت معها بحدية مفرطة، وقمعتها قمعاً متوحشاً، مبالغاً فيه، على الرغم من كون المطرفية جماعة علمية بالمقام الأول كما أسلفنا، إلا أنها مع هذا ظلت «فوبيا» قائمة تقض مضاجع الهادوية ليل نهار وظلت شغلهم الشاغل حتى بعد تلاشيها، كما ظلت من قبلها الإسماعيليّة كذلك. لقد بدأت المطرفيَّةُ من وقتٍ مبكرٍ تُفسرُ المسائلَ الطبيعيَّة تفسيراً علمياً، بقوانينِ الوجودِ وقوانين الخلقِ العلميَّة، بعيداً عن الخرافاتِ والتأويلات التي لا تتفقُ ومنطقَ العقلِ البرهاني؛ بل لقد اتبعوا منهجيَّةً علميَّة أرقى من منهجيَّةِ الفلاسفةِ اليونان، والتي ثبتَ خطأُ بعضِها، كما هو الشَّأن في مسائلِ القياسِ العقلي التي أضافتْ إليها المطرفيَّةُ التجربةَ العلميَّة، فزاوجوا بين المنهجيتين بطريقة تبعثُ على الفخرِ والاعتزاز. فمثلاً قالوا: إنَّ المطرَ النازلَ من السَّماءِ هو نتيجةُ تكثفٍ من بخارِ البحر، ثم عودته مرة ثانيَة على الأرض، وقَدْ كان النَّاسُ يعتقدون أنَّ الأمطار تسقطُ من السَّماء مباشرةً ولا علاقة للبحارِ بها. وهِي الفكرةُ البدائيَّةُ السَّائدة لدى العَامَّة إلى اليَوم؛ كما أن البَرَدَ النازلَ من السَّماءِ نتيجةٌ من رياح باردة، صَادفتْ الماء في الهواء، فأحالتْه بذلك بَرَداً. وقالوا - أيضاً - : إنَّ أعمارَ الإنسانِ تطولُ وتقصرُ بحسبِ التَّغذيةِ وبحسبِ الهواءِ والمناخِ والأحوالِ العارضةِ للإنسان. وأيضاً خروجِ الوليدِ مشوهاً من بطنِ أمه؛ عَزوه إلى خللٍ طرأ على الجنين. وجاءت الحقائقُ العِلمِيَّةُ اليومَ تقررُ أنَّ أيَّ خللٍ في المنظومةِ الكروموسوميَّةِ للجنينِ يتخلقُ معه ويؤثرُ عليه بعد ذلك. وغير هَذِه من المسَائل التي أكدتْ أغلبُها الاكتشافاتُ العِلمِيَّةُ في وقتٍ متأخر. وللعلم فقد تزامنَ نشوء هَذِه الفرقةِ وتبازغتْ ملامُحها قُبيل نشوءِ حركات التَّحرر الأوروبي ومدارسِ النقدِ والفكرِ هناك. وكان من الممكنِ أنْ تشكلَ هَذِه الجَمَاعَةُ «المطرفيَّة» حركة إحياءٍ قومي للمنطقة، لو لاقت من الاهتمامِ والرعاية نصفَ ما لاقته من المحاربةِ والتنكيل؛ وربما قدمت نَظَريَّةً فكريةً وسِياسيَّة وفلسفيَّة متكاملةً في الحُكم والاقتصادِ والمعرفة؛ وكانتْ قمينةً بحقنِ دماءِ اليمنيين وحفظِ أموالهم التي أُهدرتْ على ذمةِ الصِّراعاتِ السِّيَاسِيَّةِ. وقد عمدوا إلى تكفير الجماعة أولاً كما هي عادتهم، وإخراجهم من الملة، وذلك لما يترتب على التفكير من استباحة للأنفس والأموال والأعراض، وفقاً لأدبيات الفقه الهادوي الكهنوتي، فألف أحمد بن سليمان فيهم كتابين، هما: الرسالة الهاشمة لأنف الضلال من مَذهَب المطرفيَّة الجهال. وأيضاً: الرسَالةَ الواضحةَ الصَّادقة في تبيين ارتداد الفرقة المارقة المطرفيَّة الطبعيَّة الزنادقَة. وينسب له قوله: لو استمرت المطرفيَّةُ لن تقومَ قائمةٌ لدولةِ آل البيت. وكذلك فعل السفاح عبد الله بن حمزة، الملقب بالمنصور؛ إذ كفَّرَ المطرفيَّة في واحدةٍ من رسَائله إلى عامَّةِ الناسِ، قُرئتْ في المجامع والأسْواق. (22) وقَدْ ترتب على تكفير المطرفيَّة ملاحقةُ أتباع المنصور لهم، حتى لم يعد بوسعهم الدخول إلى الأسْواق العَامَّة إلا بذمة أو جوار من غيرهم! (23) بل لقد تمتْ مُصَادرة أموال أهل هجرة «قاعة» لهذا السبب، كما تم هدم مسجد المطرفيَّة في سناع ووقش، وتخريب بيوتها، وطرد أهلها، وقَدْ قَال بعد أن تمكن من القضاء عليهم: «أريد أن أجْعلها سُنَّة باقيَة يعملُ بها من قَام ودعَا من أهل البيت فيما بعد» (24) وقد اعتبر بلادهم بلاد كفر «وكل دار أظهر فيها إنسان كلمة من الكفر، أو كلاماً لا يفتقر في إظهاره إلى ذمة ولا جوار من أحد من المسلمين فهي دار كفر.. فكل جهاتهم دار حرب، يحل فيها قتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وغزوهم كما تُغزى ديار الحرب ليلاً أو نهاراً، وأخذهم سراً وجهارا، والقعود لهم كل مرصد، وقد أبحناهم لمن اعتقد إمامتنا من المسلمين، غيلة ومجاهرة، وغيباً وظاهرة، ومن جاءنا بأحدٍ من ذراريهم اشتريناه بثمن مثله، وأجزنا أخذه بما يرضاه، كما يفعلُ أئمة المسلمين بمن غزا ديار المشركين، ويُجهز على جريحهم، ويقتل مدبرهم ومقبلهم، ويُمثل بقتلاهم..». (25) كما قَال أيضاً في رسَالَةٍ مطولة، وجهها إلى أهل اليَمَنِ عن المطرفية، محرضاً القَبَائلَ عليهم: «فحاكمناهم إلى الله تعالى، فقضى لنا عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية..». (26) مضيفاً: «وقد أفتيناكم بما أفتى به إمامُنا - عَليْه السَّلام - من تحريم أمانهم، والذمة عليهم، وتسْليم شيءٍ من الواجباتِ إليهم، وأبَحْنا قتلَهم وسلبَهم ودمَهم، ذلك حكمُ الله سُبحانه فيهم، وفيمن كان منهم» (27) ، وفي سيرته في سياق الكلام عن المطرفية: «وشرط فيه إباحة دمائهم، وتُغنم أموالهم..». (28) وقوله: «فيمن كان منهم» يشمل نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وعبيدهم ومواليهم.. وأبشعُ من هَذا وذاك أيضاً أنه قَام بملاحقة أحد مَشائخ المطرفيَّة العُميان في قرية «حصن بكر» بحَجة، رغم شَفاعة الكثير من أهل تلك المنطقة له، إلا أنه أصَرَّ على إحْضاره إليه وضَرب عُنقه ودفنه في مَكانه، وجعل عليه الحجارة.! (29) والأكثر بشاعة حين سبى من نساء صنعاء ستمائة امرأة، واقتسمهن أخوه وقائد جيوشه يحيى بن حمزة مع قادة جيشه ومقربيه في قاع طيسان. * * * (1) هجر العل ومعاقله في اليمن، الأكوع، 1514 / 3. (2) إلهان جبل في آنس من محافظة ذمار. (3) هجر العلم، 1512 / 3 (4) سيرة الإمَام أحمد بن سليمان، سابق، ص 100. (5) هجر العلم، 1291 / 3. مما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن صَنعاء حتى هَذِه الفترة كانت سنية المذهب، ولم تكن بعد قد اعتنقت الهادوية حتى تلك الفترة، عدا أسر قليل منها، ولذا استحل عبد الله بن حمزة قتالهم وسبي ذراريهم. وذات الأمر فعله مع بلاد المصانع، وهِي منطقة ما بين كوكبان إلى ثلا غربا، وكانت على مَذهَب الشافعية، إضافة إلى بلاد حجة والشرفين وجبل تيس، ولذا عاملها ابن حمزة معاملة المشركين، وذلك بقوله: «لما استفتحنا المصانع بالسيف، جعلنا أموالها بأيدي أهلها شركاً، لأنها قد صارت بحكم الله ملكاً للمسلمين، وجعلنا لهم القيام بذلك، وزراعته أربعة أخماس، ويسلمون الخُمس، وعليهم التمسك بطاعتنا، وموالاة موالينا، ومعاداة معادينا، والجد والاجتهاد في سَبيل الله..» انظر هجر العلم، 1288 / 3. (6) انظر: روح الروح فيما حدث بعد المئة التاسعة من الفتن والفتوح، عيسى بن لطف الله شرف الدين، تحقيق: إبراهيم بن أحمد المقحفي، مركز عبادي للدراسات والنشر، ط: 1، 2003م، 80. (7) نفسه، 81. (8) اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية، محمد بن إسماعيل الكبسي، د.ت. 154. (9) روح الروح فيما حدث بعد المئة التاسعة من الفتن والفتوح، عيسى بن لطف الله شرف الدين، تحقيق: إبراهيم بن أحمد المقحفي، ط:1، 2003م. 93. (10) معارك حاسمة من تاريخ اليمن، حمزة علي لقمان، مركز الدراسات اليمنية، ط:1، 1978م، 121. وأيضاً اللطائف السنية، سابق، 158. وانظرها أيضاً في: هجر العلم، الأكوع، 264 / 1. وقد عرفت هذه الموقعة بموقعة «موكل» وكما ذهب المؤرخ الفرح فإن «موكل» عاصمة أذوائية للقيل أبرهة بن الصباح الحميري، ومقر ملوكيته، وتقع في ناحية صباح، بمنطقة رداع، كان يردها الزائرون من أنحاء الجزيرة، وفيها قال الشاعر: وعلى الذي كانت بموكل داره يهب القيان وكل أجدد شاح (11) حجور من مناطق غربي حجة. وهو مخلاف واسع، ومن أكثر مخاليف اليمن مناوءة للإمامة، ورجاله رجالات حرب وبأس. (12) ابن الأمير وعصره، صورة من كفاح شعب اليمن، تأليف: قاسم غالب أحمد، حسين أحمد السياغي، محمد بن علي الأكوع، عبد الله المجاهد الشماحي، محمود إبراهيم زايد، د.ن. د. ت. 32. (13) نفسه، 33. (14) هو إبراهيم بن موسى الجزار، من المنتمين للبيت العلوي، أسرف في القتل واستباحة الأموال، وتروي الروايات أنه قتل في منطقة جِدر، خارج صنعاء. (15) انظر: النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة، وابن الأمير وعصره، 32، والثقافة والثورة في اليمن، عبد الله البردوني، د.د. ط:4، 1998م. 334. (16) قضايا يمنية، سابق. 295. (17) الشرائح الاجتِمَاعيَّة التقليدية في المُجتَمع اليمني، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء. ط:1، 1986م. 218. وهذان بيتان من زامل كان يرددهما عساكر الإمَام إذا دخلوا قرية معينة يرددونهما بصوت مرتفع معا، بقصد إرهاب المواطنين وإثارة الرعب في أوساطهم، وهو نوع من وسائل الإكراه والابتزاز والتهديد: يا من يخالف أمر مولانا ويعصيه لا بد من يوم تراه لا بد من يوم يشيب الطفل فيه والطير يرسى في سماه وفي حرب الإمَام يحيى مع الزرانيق كان عساكره يرددون هَذا الزامل: جاك سيل الله يا صَاحِب تهامة مقدم السيف المظلل بالغمامة نضرب الزرنوق في داخل خيامه راعد القبلة ورد شرفا وجرمل (18) التحف شرح الزلف، مجد الدين المؤيدي، 197. وفي المجموع المنصوري لابن حمزة: نيف وسبعون وقعة. 101 / 1. (19) منطقة في جبل عيال يزيد، شمالي عمران. (20) التحف، سابق، 222. (21) اليمن في ظل حكم الإمام المهدي، محمد علي دبي الشهاري، 356. (22) انظر السيرة الشريفة المنصورية، أبو فراس بن دعثم، تحقيق: عبد الغني محمود عبد العاطي، بيروت، دار الفِكر المعاصر، ط:1، 1993م 863 / 1 (23) نفسه 887 / 3. (24) نفسه، 95 / 3. (25) المجموع المنصوري، 84 / 1. (26) المجموع المنصوري، 61 / 1. (27) مجموع مكاتبات الإمَام عبد الله بن حمزة، سابق، 164. (28) السيرة المنصورية، أبي فراس بن دعثم، 964 / 2. (29) انظر: السيرة المنصورية، أبي فراس بن دعثم، سابق،970 / 2. ** **