تبنى الدول على سواعد الشرفاء والمخلصين، كما لا تستقيم مسيرة المجتمعات إلا بوجود القدوات الذين يقومون بفاعلية وينسجون منظومة المبادئ والقيم لدى الناس، ودون شك فإن عبدالله النعيم المشهور ب»أبوعلي» كان ولا يزال واحدًا من هؤلاء الأفذاذ، وذلك حق مشهود له ويليق بمقامه. قبل فترة تشرفت في القراءة والاطلاع على كتابه الذي صدر حديثًا «بتوقيعي: حكايات من بقايا السيرة 1442ه». وقد قدم للكتاب وراجعه الدكتور إبراهيم العبدالرحمن التركي، وذلك بتميز خبرته ومنهجيته الفائقة. ومن الجدير بالذكر أن الكتاب «بتوقيعي» منذ صدوره حظي بالإعجاب من الكثيرين الذين كتبوا عنه مثل: أ.عبدالرحمن السدحان، أ.يوسف القبلان، أ.حمد القاضي، أ.أحمد العساف، أ.عبده الأسمري، وغيرهم، إذ إن الجميع أضاف رؤية وإضاءات مشرقة، مما يؤكد أهمية الكتاب ومؤلفه ومدى الاحتفاء به. ويعتبر كتاب «بتوقيعي» سيرة عملية وشخصية ذاتية لأبي علي، حيث جاءت بعد حوالي عشرين عامًا من كتاب آخر سبق وأن ألفه الدكتور التركي عن أبي علي في «الإدارة بالإرادة 1423ه»، وذلك في أكثر من 400 صفحة. وهو الكتاب الذي فصل سيرته ومسيرته بدءًا من ولادته وصباه وشبابه المبكر بمدينة عنيزة ثم مغادرته إلى جدة وللرياض وبعدها إلى بريطانيا حيث أنهى درجة الماجستير في جامعة أكسفورد ثم واصل الدكتوراه في رسالة عن «تاريخ عسير الحديث» إلا أنه اضطر إلى العودة إلى الرياض دون استكمال رسالته، وذلك استجابة لنداء الوطن الملح في حينه. وعمومًا فإن الكتابين يكملان بعضهما ويتبعان منهجين متوازيين ويقدمان صورة بانورامية شاملة عن مسيرة النعيم خلال تسعة عقود من الزمن، كما اتفق الكتابان في عرض سيرته الشخصية وحياته العملية الرسمية والتطوعية وغيرها. ويتكون كتاب «بتوقعي» من سبعة فصول في 254 صفحة، ويبدأ بإهداء خاص وعرفان وشكر لمن ساهم في إنجازه، وكذلك يحتوي على ملحق من (60 صفحة)، ويضم كثيرًا من الوثائق والأوسمة والصور والكلمات في مناسبات التكريم العديدة، ويعتبر هذا الملحق جزءًا شاهدًا لا يتجزأ من محتويات الكتاب وأهميته. ومن الجميل أن أبا علي يبدأ بإهداء الكتاب للوطن من النفود للأخدود بما فيه قادته وأجياله أملاً أن يكون إرشادًا للجيل لكي يكونوا قدوات خيرة في مسيرة حياتهم، ومؤكدًا أنه لن يذكر إلا الحقائق الصادقة دون ادعاء أو مبالغة. ولعل العبرة في الإهداء أنها تكشف عن طبيعة مبادئ أبي علي وأهدافه ومنهجه في الحياة، علاوة على قوة الولاء والعطاء في خدمة الوطن والمواطنين. ومن الجهة الثانية، يمثل العنوان الجانبي للكتاب: «حكايات من بقايا السيرة» طريقة صياغة النعيم في استخدام أسلوب الحكاية عن سيرته وأعماله ومواقفه... الخ. وأجزم أن هذه الحبكة الجديدة قد مكنت أبوعلي أن يستعرض حياته وتجاربه الشيقة مما يجعل القارئ يستمر بالقراءة دون ملل وكلل. وفي إيجاز يتناول الفصل الأول بدايات حياته، والثاني من عنيزة وأعماله في الرياض، والثالث البعثة ثم العودة لإدارة شركة الغاز، والرابع أمانة مدينة الرياض، والخامس ما بعد التقاعد، والسادس الأعمال التطوعية والأهلية والاجتماعية، والسابع مدار العلاقات مع المسؤولين والناس من جهة وعلاقته العائلية من جهة ثانية، وهنا كما بدأ أبوعلي في الكتابة عن مطلع حياته انتهى أخيرًا بالتأكيد على ذكر علاقته القوية بأسرته وذويه ومن ذلك خاصة زوجته -رحمها الله- التي يكن لها كل الحب والوفاء والعرفان، ولقد كنت أتمنى أن أطال فيها من رجل ناهز التسعين. والخلاصة كما ورد الحديث «خيركم خيركم لأهله»... ومن الواضح أن كل فصل من الكتاب يبقى غنيًا وثريًا رغم إيجازه، بل يمكن القول إن كل فصل لو استكملت كثيراً من جوانبه لأصبح كتابًا مستقلاً بذاته لأن سيرة أبي علي الواسعة لم تقتصر على هذه البقايا التي ذكرها بتواضعه. ودون حصر، عمومًا فإن قراءة كتاب «بتوقيعي» تدعو إلى التأمل في مواطن كثيرة تعايش معها أبو علي منذ ولادته عام 1932م وهو تاريخ بأية حال لا يُنسى، خاصة أنه تزامن مع الإعلان الجامع لاسم المملكة العربية السعودية. ومن تلك البداية -أطال الله عمره- ظل متوقد الفكر وحاضرًا في الزمان والمكان مع بلوغ التسعين عامًا. ولذا يعتبر النعيم بحق بمنزلة شاهد عيان حيث صاحب التطورات التي شهدتها المملكة في نموها حتى الوقت الحاضر. ولذا، ومن جانب قدراته ومواهبه حظي بالكثير من الوظائف والمناصب القيادية التي يصعب تعدادها في هذا السياق سواء كانت تعليمية أو مهنية، ولعل من بينها أو أبرزها أمانة مدينة الرياض عندما أصبح أمينًا للعاصمة، إذ يشهد له الباع الطويل في نمو الرياض وتطور بنيتها في مختلف الجوانب بصورة غير مسبوقة. ولقد عرف عن أبي علي في جميع مناصبه أن أبواب مكتبه كانت دائمًا مفتوحة للمواطن الصغير والكبير دون حواجز أو تعطيل، كما كان يحرص على خدمة الجميع بالحق دون تفريق أو تفضيل. وبالرغم من ثقته في وكلائه ومسؤوليه إلا أنه كان يتابع شؤون الأمانة بنفسه في كل صغيرة وكبيرة من أجل ضمان الدقة وسرعة الإنجاز، كما كان قويًا وسريعًا في اتخاذ القرار اللازم. ونتيجة لمناقب أبي علي، فقد حظي بمحبة الناس ورجال الدولة، وبعلاقات واسعة ممتدة مع أصدقاء كثيرين. ولم تقتصر هذه السمعة الكريمة عليه محليًا، بل امتدت لأطراف آخرين على المستوى الدولي، الأمر الذي نادرًا ما يتوفر لمسؤولين في مراكز رسمية. والحديث عن سماته الشخصية كثيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تميز أبو علي بفطرة سليمة محبة وتفاؤلاً وإخلاصًا للوطن والمواطن تقرب من المثالية علاوة على قوة الإرادة التي لا تعرف اليأس والتراجع. ومن المعروف أنه يتسم بقوة قناعاته وصراحته مع الجميع دون مواربة، إلا بما تقتضيه أصول اللياقة المعهودة. ومع هذا عرف بحسن وجاهته وصدقيته مع المسؤولين المحتاجين ومن يطرق بابه. وعلاوة على ما سبق، وسواء قبل التقاعد أو بعده لم يتوان أبو علي عن المبادرات في أعمال الخير في المجالات الأهلية والتطوعية وإدارتها بل وترأسها في مختلف المناشط، حتى في خارج المملكة ومن ذلك رئاسة المعهد العربي لإنماء المدن ومجلس الأمناء، حيث امتد حضوره بالمشاركة بالندوات والمحاضرات في العديد من المنابر والمؤتمرات الوطنية والعربية. وقد ساهم في عدة إصدارات في هذا المجال التطوعي، ومن ذلك: «العمل الاجتماعي التطوعي، مع التركيز على العمل التطوعي في المملكة» (المعهد العربي للإنماء) مؤتمر العمل التطوعي والأمن (الرياض، 1421ه)، «إدارة المدن، تجربة مدينة الرياض 1415ه»، دور القطاعين العام والخاص والجمعيات الخيرية في تفعيل المسؤولية الاجتماعية: نماذج من المملكة العربية السعودية. وأخيرًا وليس آخرًا، أرغب أن أختم بالقول إن أبا علي كما أجزم يحمل في قلبه حبًا خاصًا لمدينتين يصعب ترجيح واحدة على الأخرى، الأولى عنيزةمسقط رأسه، وحياته المبكرة، والثانية مدينة الرياض التي عاش فيها وعمل فيها طيلة عمره، ولا مشاحة في ذلك، فالحب واسعة آفاقه، وخير الناس أنفعهم للناس. حفظ الله أبا علي وأطال عمره وأبقاه. ** **