جاء الأمر الملكي بانشاء وزارة مستقلة للمياه، خطوة حكيمة وقوية ومحسوبة ومدروسة ومقروءة، لتختص وتركز جهودها على قطاع المياه وتكون قضايا المياه همها الأول وواجبها الرئيسي، وذلك بهدف إعادة هيكلة قطاع المياه، تجسد هذه الخطوة حرص الدولة على استشراف مستقبل المياه، ولدعم وتطوير آلية العمل، من الواضح أن هذه الخطوة لم تكن وليدة يوم وليلة ولا نتيجة رد فعل لموقف معين وإنما جاءت بعد دراسات علمية منهجية ومتأنية ومسح ميداني، وموضوعي كمي ونوعي لنشاطات ووظائف وأعمال ومهمات وزارة الزراعة والمياه وتداخلها وتأثير بعض المهام على الأخرى وتغليب بعض الوظائف على الأخرى حيث ازدهرت الزراعة وتوسعت على حساب استنزاف المياه ومن ثم التأكد من حقائق العوائق التي تواجهها المياه، وبعد استعراض جميع الخيارات المتاحة والمطروحة تم اختيار ووضع أنجع الحلول وأفضلها من حيث الفعالية والكفاءة والتأثير. الحقيقة التي تؤكدها جميع الإحصاءات أن الطلب على المياه في زيادة لزيادة عدد السكان ونمو الاقتصاد وتطور البلاد، ولا يواكب ذلك زيادة في المعروض أو المنتج من المياه، الأمر الذي يتطلب إنشاء وزارة مستقلة تختص بوضع المخططات والاستراتيجيات لقضية وشأن واستثمارات صناعة المياه. هذه خطوة تنظيمية رائعة ومدروسة تتصدى لقضية المياه التي تعد أحد أهم المعوقات التي تواجه استدامة التنمية الشاملة الاقتصادية والاجتماعية، كما تؤثر على نطاق وطبيعة التنمية بعيدة المدى، فتخطيط المياه جزء من عملية التخطيط الشامل، المياه أحد أهم التحديات التي تواجه المملكة ومن أبرز القضايا الاستراتيجية. ولاشك أن وجود وزارة مستقلة للمياه يعطي هذا العنصر المزيد من الاهتمام والتركيز، وتسهم بفعالية في إدارة المياه مما ينعكس إيجاباً على تنظيم توفير هذا العنصر وحسن ترشيد استخدامه دون إهدار. إن لكل بيت مشكلة مع المياه وما يهم المواطن هو أن تحل مشاكله على الفور، في العاصمة الرياض كان الماء يصب كل يوم باستمرار، أصبح الآن يصب يوماً وينقطع ثلاثة أيام في الظروف العادية، وعشرة أيام في حالة انكسار أنبوب في الحي في اليوم الذي ينتظر أن يصب فيه الماء، المياه لا تغطي كل أحياء المنطقة الشرقية، الليث، والقنفذة وجيزان لا تتمتع بالمياه الصالحة للشرب، بروز مشكلة المياه في الرياض لانكسار الأنبوب الذي يغذي العاصمة تسبب في انقطاع تدفق مياه التحلية إلى الرياض في أزمة مائية حادة عاد بها إلى عهود ما قبل النفط، قد تكون أزمة المياه التي عاشتها الرياض تجربة بسيطة ولكنها مؤشر قوي ونذير يدق أجراسه ليوقظنا إلى ما قد يحدث في المستقبل القريب، الرياض أصبحت مدينة الاستثمار والاقتصاد والسياحة الطبية والعلمية، مدينة المؤتمرات والندوات، مكة والمدينة مدن للسياحة الدينية يتجه إليها المسلمون من جميع أنحاء العالم لأداء فريضة الحج والعمرة، جدة وأبها والطائف والمنطقة الشرقية مدن للسياحة الداخلية الترفيهية وجميع هذه المدن تعتمد على مياه التحلية، ونقص وندرة المياه يفشل طموح المسؤولين عن هذه الخطط لأن بعض محطات التحلية قارب عمرها الافتراضي على الانتهاء خلال سنوات قادمة، شح الموارد المالية دفع إلى خفض أو إلغاء بعض المميزات للموظفين وأثر على برنامج الصيانة الوقائية والدورية وتأخير توفير قطع الغيار، هذه مقدمة لأزمة حقيقية قد تتعرض لها مدن المملكة في أي لحظة إذا لم نتدارك الوضع، الأوضاع السيئة لا تتغير في أسابيع أو أشهر، لأن محطات التحلية لاتشاد بين عشية وضحاها والخطوط لا تتغير بجرة قلم والشبكة لا تتحسن بمجرد الرغبة في تحسينه، لابد أن يبدأ الطريق نحو الإصلاح الشامل، قبل أن تواجه مدن المملكة مشاكل من تعطل محطة لانتهاء عمرها الافتراضي أو تعطل أنبوب بسبب عدم وجود الاعتمادات المالية لصيانته أو استبداله وتؤول الأمور إلى وضع يعاني منه المواطنون، هذا القول لا يدخل من باب التهويل أو السوداوية أو التشاؤم بل من باب تعليق الأجراس للانتباه وأخذ الحيطة، والتحرك بما يقتضيه الموقف من سرعة ومرونة وإبداع. تشكل محطات التحلية أهم وأكبر مصدر من مصادر مياه الشرب بسبب تدهور المصادر والموارد الطبيعية نتيجة لحدوث طفرة في الاستهلاك لم يسبق لها مثيل وذلك للنمو السكاني المتزايد، لقد أثبتت التجربة أن تحلية مياه البحر هو الخيار الاستراتيجي لإيجاد مصدر إضافي وبديل يمكن الاعتماد عليه لضمان تلبية احتياجات المواطنين من هذا العنصر الحيوي والهام، لذلك وفي ظل الانفجار السكاني وزحف العمران وطفرة الاستهلاك تضع ضغوطاً على قطاع المياه فالمرحلة القادمة تحتاج إلى مبالغ ضخمة لاستثمارها في تشغيل وصيانة وإحلال محطات التحلية العاملة وإنشاء محطات تحلية جديدة، ولتوفير هذه المبالغ لا بد من البحث عن مصادر تمويل بديلة عن الدولة، وعليه تتطلب المرحلة القادمة تفعيل دور الخصخصة في تمويل مشاريع التحلية وتقديم التسهيلات أمام المستثمرين في مشاريع المياه لتوفير الاحتياجات المائية، إن مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار في مشاريع التحلية ستؤدي إلى تخفيف الأعباء المالية المترتبة على القطاع الحكومي كما يساهم في زيادة فعالية التشغيل والصيانة والإدارة لمحطات التحلية وتلبية احتياجات المواطنين، لأن القطاع الخاص ينفرد بفكر اقتصادي وبخصائص وعقلية اقتصادية مرنة ومستقلة ومتحررة من قيود وجمود الروتين، ويعتمد على المنافسة واللامركزية وسرعة الحركة في اتخاذ القرارات ومواجهة المستجدات ومواكبة التطورات والمتغيرات في الأسواق المحلية والعالمية، ليس هناك شك بأن القطاع الخاص لديه القدرة على تحسين الأداء وعليه من المتوقع الإسراع في خصخصة قطاع المياه ليصبح القطاع الخاص حصان المرحلة القادمة والمحرك الفاعل لهذا القطاع، الخصخصة ليس بمعناها الضيق وهو تحويل الجهاز الحكومي إلى شركة احتكارية، تحتكر المنتج وتقديم الخدمة، وإنما المقصود بالخصخصة بمعناها الواسع وهو فتح المجال أمام القطاع الخاص للمنافسة في تقديم هذه الخدمة وبذلك يزيد العرض وتنخفض الأسعار ويسعد المواطن بتقديم خدمة أفضل له، ولابد من تضافر الجهود من خلال ترتيب لقاءات بين وزارة المياه وبين رموز القطاع الخاص من رجال أعمال ومقاولين ومستثمرين ومؤسسات مالية والبنوك التجارية للتعرف وتذليل جميع العقبات لتسهيل وتطوير الاستثمار في هذا القطاع الحيوي والهام، كما يمكن فتح الفرص أمام مشاركة رؤوس الأموال والشركات الأجنبية للاستثمار في هذه المشاريع مما يعزز بيئة المنافسة. من المتوقع أن تعمل هذه الوزارة من خلال جهاز متخصص ومتفرغ لجمع المعلومات الدقيقة وتطبيق الأساليب العلمية والنماذج الرياضية والإحصائية لوضع خطة واستراتيجية وتطوير سياسة مائية واضحة ومقروءة، كما يمكن أن يكون من ضمن هيكل الوزارة إدارة للاستثمار لوضع الأطر والتشريعات القانونية والتنظيمية لاستقطاب وتشجيع رؤوس الأموال المحلية والأجنبية للاستثمار في قطاع إنتاج وتشغيل وصيانة وإنشاء محطات التحلية، وتنظيم وإصدار التراخيص والمتابعة والإشراف على مشاركة القطاع الخاص في مشاريع المياه، لا نتوقع بناء وزارة إمبراطورية هائلة ومترهلة يتكدس فيها الموظفون، يتسكعون في الممرات أو يتلهون بألعاب الكومبيوترات، هذا جاء عن طريق فلان، وهذا نسيبه علان وهذا صاحبه فلتان، وهذا مسكين انكسر في أعماله الخاصة، وهذا ظروفه صعبة أبو عيال، وهذا تمدد خدمته بعد بلوغه سن التقاعد لأنه لا يمكن الاستغناء عنه، وبذلك يتحول الجهاز إلى تكية عثمانية، الذي يعتقد أن هناك موظفاً لا يمكن الاستغناء عنه حتى ولو كان الوزير، عليه مراجعة ذاكرته وقدراته العقلية والذهنية، نتوقع أن تكون مهمة الوزارة وضع الاستراتيجية والتنظيم والإشراف والمتابعة ويترك أمر التنفيذ خارج الوزارة عن طريق كيانات تملك المرونة للتحرك السريع والفعّال ومواكبة جميع الدورات الاقتصادية، فلقد أثبتت التجربة أن التشغيل الذاتي وإدارة مرافق الخدمات من قبل الدولة، نظرة قاصرة ومكلفة في غياب المنافسة، كما أنها نظرة نفسها قصيرة لا تصمد أمام الدورات الاقتصادية، حملتها وسترت عيوبها طفرة إيرادات النفط، التي لن تعود، كما نوه بذلك صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني- حفظه الله-. وأخيراً فقد ردد البعض أنه أول المنادين بإنشاء وزارة مستقلة للمياه منعاً للازدواجية وبحثاً عن التكامل في إطار تنظيمي واحد يشمل كل الجهات المسؤولة عن المياه، وللتاريخ أقول كنت عضواً في لجنة برئاسة سعادة المهندس يوسف الحماد - رحمه الله - كان وكيل وزارة الصناعة والكهرباء لشؤون الكهرباء - لمناقشة التداخلات بين إنتاج الكهرباء من محطات التحلية وإنتاجها من محطات الكهرباء، وقد طرح سعادته اقتراحات لترشيد هذه التداخلات، منها إنشاء وزارة الماء والكهرباء للتخطيط والتنظيم والإشراف على القطاعين، أو تقوم التحلية ببيع البخار إلى شركة الكهرباء، حيث تقوم الشركة بإنشاء محطة الكهرباء بجانب محطة التحلية في موقع واحد، وتكون التحلية مسؤولة عن إنتاج الماء فقط، وشركة الكهرباء مسؤولة عن إنتاج الكهرباء. [email protected][email protected]