ينعم المصرفيون والمصارف عموماً في كل الدول بموقع اقتصادي واجتماعي مميز يعود الفضل به إلى دورها الكبير في تسهيل الدورة الاقتصادية والمالية، وإذا كان دورها الأساسي تجارياً أي تسهيل انتقال الأموال من المدخرين إلى المقترضين وتحقيق الأرباح عبر فروقات الفوائد، فأدوارها الاستثمارية الرئيسية لا تقل أهمية وتتلخص في تأمين النصائح المالية للزبائن والاستثمار في الشركات وتسهيل التمويل للمؤسسات مباشرة من الأسواق المالية مقابل أجر تتقاضاه كنسبة من حجم العمليات المالية، والذي فصل بين الموقعين أساساً هو قانون أمريكي يدعى غلاس ستيغل Glass-Steagall تبعاً للمسؤولين اللذين وضعاه سنة 1933، واعتمدته معظم الدول حتى سنوات قليلة ماضية، ويمكن القول ان الدولتين الأساسيتين اللتين لم تعملا به هما اليابان وألمانيا واللتان اعتمدتا نظام المصارف الشاملة أو غير المتخصصة. المبدأ الذي يرتكز عليه نظام المصرف الشامل هو تقديمه لكل الخدمات التجارية والاستثمارية، وبالتالي تخفيض كلفة عملياته عبر توزيع موارده بين الأقسام المختلفة. أما الفكرة الأساسية التي على أساسها وضع القانون الأمريكي فهي احترام المنافسة وتجنب سيطرة مؤسسات قليلة على الأسواق المالية والمصرفية. فمن الخطورة بمكان على الاقتصاد العام وعلى الشركة والمواطن، خاصة في أسواق متطورة كالأمريكية والأوروبية واليابانية، ان يسيطر مصرف ما على السوق ويقضي على المنافسة. أما السبب الآخر الذي وضع من أجله فهو عدم الخلط بين أعمال المصرف التجاري والاستثماري خوفاً من تداخل وتضارب المصالح التجارية بالاستثمارية. فكرة الفصل أو التخصص هي جيدة ولكن تطور الأسواق المالية وتوسع المؤسسات جغرافياً وقطاعياً كما التقدم الكبير الحاصل في أسواق التكنولوجيا والاتصالات تحديداً، جعلت كلها من الرقابة على العمل المصرفي عملاً صعباً جداً، وهكذا رفضت الأسواق قبل المؤسسات الرسمية القانون المذكور، مما استدعى الغاؤه عملياً سنة 1999 من قبل المشرع الأمريكي. ولا بد للقوانين المصرفية من ان تتطور مع الأسواق أو تسبقها إذا أمكن، كي تسهل عمل المصارف الوسيطي بين المدخر والمقترض، ولا بد للقوانين من ان تضع الأطر المناسبة للرقابة الجيدة بحيث تظهر المشاكل المحتملة للمراقبين، قبل ان تصبح علنية وتحدث خضة اقتصادية. وتدل الوقائع على حدوث 35 أزمة مصرفية وطنية في العقود القليلة الماضية مما يدل على ضعف الرقابة وعلى التعقيد الحاصل في عملها، فبعض المصارف أقرض إلى الشركات أو الدول ذات المخاطر العالية لرفع الربحية، وبالتالي وضع نفسه في موقع خطر نتج عنه سوء التحصيل لبعض القروض، وما الافلاسات التي حصلت إلا دليلاً واضحاً على سوء الإدارة المصرفية في بعض الأحيان والدول. معظم التمويل الخارجي للشركات يأتي من المصارف حتى في الدول الصناعية، وذلك بالرغم من تطور أسواقها المالية المتنوعة، فما الذي تقدمه المصارف وتعجز عنه أسواق الأسهم والسندات والأسواق المشتقة وغيرها، تتميز المصارف بما يلي: أولاً: العلاقة القريبة بين المصرف والمقترض والتي تجعلها خاصة واستثنائية ومميزة، فالمصرف يعرف زبائنه ويتابع أوضاعهم ويمكن ان يتأقلم مع حاجاتهم ويساعدهم بالتالي على الحصول على التمويل المناسب لهم، كما يمكن للمصرف تقديم الاستشارة المالية التي تعجز عنها الأسواق المالية الواسعة، فالاقتراض من المصرف هو أسهل وأفعل ويساهم في بناء علاقة فريدة بين المقرض والمقترض تعجز عنها الأسواق الكبيرة. ثانياً: من الصعب على الأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة الحصول على التمويل من الأسواق المالية الواسعة، لذا يمكن للمصارف تأمين حاجات الأفراد الاستهلاكية والاستثمارية كما تمول استثمارات الشركات الصغيرة والمتوسطة، ففي الولاياتالمتحدة 25% من تمويل الاستثمارات يأتي من المصارف، 28% في فنلندا، 37% في فرنسا، 28% في إيطاليا، 50% في اليابان وما يقارب ال100% في الدول النامية ومعظم الناشئة، وقد تنوعت مع الوقت نوعية وطبيعة القروض بحيث أوجدت المصارف لكل شركة وفرد الأداة المالية التي تناسبهم. وإذا كان الدور المصرفي بهذه الأهمية، فما هي المواضيع التي على السلطات المصرفية الوطنية الاهتمام بها لتسهيل العلاقة بين المصرف من جهة والمواطن والشركة من جهة أخرى وبالتالي أيضاً تأمين سلامتها؟ أولاً: أهمية المنافسة في القطاع المصرفي مما يوسع الخيارات أمام الزبائن ويخفض كلفة الاقتراض، كما تدفع المنافسة المصارف إلى التجدد الدائم لتأمين الخدمات النوعية بأفضل الأسعار، ضعف المنافسة يساهم في خلق قطاع غير صحي وغير متجدد، وبالتالي غير قابل للحياة والاستمرارية، في معظم القطاعات المصرفية الوطنية، هنالك قلة من المصارف تسيطر على القطاع وتتحكم بالخدمات والأسعار وبالتالي بالمواطن، هدف قوانين المنافسة الوطنية والرقابة هو تجنب حصول احتكار في القطاع المصرفي. ثانياً: وجود قطاع مصرفي فاعل يعني تواجد المصارف الكبيرة والمتوسطة والصغيرة داخله، فالواقع يدل على ان المصارف الكبيرة تقرض للشركات الكبيرة والمصارف الصغيرة للشركات الصغيرة، من هنا أهمية توافر كل الأحجام لخدمة الجميع، كما يستفيد القطاع المصرفي الوطني في الدول النامية والناشئة من وجود مصارف أجنبية أو غربية تحديداً تنقل التكنولوجيا والمنافسة النوعية إليه، فالعولمة تفرض على كل مصرف اعتماد التقنيات الدولية في عمله، وإلا وجب عليه بيع نفسه أو الاندماج أو الاقفال، فالأسواق المصرفية العالمية الحالية لا تسمح للمتأخر عن التطور أو للمقصر أو للرافض له الاستمرار في العمل. ثالثاً: التخفيف من مخاطر السوق عبر رقابة جيدة وضمان للودائع المتوسطة وتطبيق صارم ودقيق لمقررات اتفاقية بال Basle التي تهدف إلى تأمين سلامة المصارف، وتتسابق الدول اليوم على تأسيس مؤسسات لضمان الودائع حيث زاد عددها من واحدة سنة 1934، إلى 12 سنة 1971، إلى 18 سنة 1980، إلى 36 سنة 1990 وإلى 68 سنة 1999، يهدف اتفاق بال إلى تجنب المزيد من الكوارث المصرفية التي حصلت في كل مكان وبلغت ذروتها في العقدين الماضيين في الولاياتالمتحدة، فأكثرية الافلاسات الأمريكية حصلت بين سنتي 1984 و1994 بالرغم من الرقابة والتقنيات الموجودة، وليس بعد أزمة 1929 كما يعتقد البعض، ولا شك ان الافلاسات شكلت السبب الرئيسي لعمليات الدمج المصرفية التي تحمل بسرعة في كل أنحاء العالم. رابعاً: يتميز القطاع المصرفي بما يعرف بالخطر المشترك، أي ان افلاس مصرف ما يعرض كل القطاع الوطني للافلاس، فلا يمكن لأي مصرف ان يعمل في أجواء عدم ثقة به، وبالتالي بالقطاع ككل، كما يمكن للعدوى ان تنتقل من قطاع وطني إلى آخر عبر العلاقات الاقتصادية والمالية بين الدولتين، فالعدوى المصرفية يمكن ان تكون خطيرة وان تنتقل بسرعة تماماً كما حصل في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا. خامساً: يؤثر تطور التكنولوجيا على عمل المصارف، حيث من غير الضروري ان يحضر العميل اليوم إلى المصرف لتأمين الخدمة، فالإنترنت غيّرت طبيعة العلاقة بين المصرف والزبائن بحيث سرعت العمل وخفضت الكلفة، أي لم يعد ضرورياً على المصرف ان يتواجد في كل حي أو قرية أو مدينة، وتخفيض كلفة العمل يجب ان يكون الشغل الشاغل لأصحاب ومديري المصارف، فالمؤسسات التي ستستمر هي التي ستقدم الخدمات المصرفية النوعية بأفضل الأسعار.