نعت الأوساط الثقافية والأدبية في لبنان الأديب المهجري رياض المعلوف، آخر شعراء العصبة الأندلسية في البرازيل، وآخر شعراء المعالفة المهجريين. وبموت رياض المعلوف انطوت آخر صفحة من صفحات رواد الأدب االمهجري، ذلك الأدب الذي شدا به فئة من أبناء العرب المغتربين، حين ألقوا عصا الترحال في تلك المطارح النائية، لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية تكالبت على بلاد الشام أواخر القرن التاسع عشر للميلاد وأوائل القرن العشرين، فكانت تلك الهجرة التي اغترب فيها الأدب العربي ليتجدد سبباً في ظهور إحدى المدارس الشعرية في العصر الحديث ألا وهي «مدرسة المهجر». على غير ما ألف، لم تستطع الغربة- رغم مرارتها- إخماد وهج الابداع الأدبي لدى أولئك، أو أن تقطعهم عن موروث أدبي وفكري وثقافي تشربوه في وطنهم الأم، بل ان الاغتراب هو الذي فجر ينابيع الإبداع لديهم، واستلهموا منه كثيراً من معانيهم وصورهم، حتى ظهر في أدبهم ما يسمى بشعر الحنين والغربة. وفي أطروحتين علميتين تقدمت بهما إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدر لي أن أدرس الأدب المهجري شعره ونثره، وأن استشرف من خلال نتاج أدبائه، والمقابلات واللقاءات مع بعضهم، أو المعاصرين لهم البيئة الثقافية التي مهدت لظهور هذا الأدب، وأن استجلي أبرز السمات والخصائص الأدبية له، وكان من بين أولئك الأدباء الأديب الراحل رياض المعلوف، إبان زيارتي له في مسقط رأسه«بزحلة» في لبنان عام 1417ه/1997م. في«زحلة» رأى رياض المعلوف النور وذلك في عام 1912م كما يقول، ففي واديها نشأ، وعلى ضفتي البردوني ترعرع ونما. وفي رحاب كل حي من أحياء زحلة سار. هناك، حيث السهل والوادي، والينبوع والجدول، والتلة والكهف، والصخر والحصى والتربة، في الأجواء الرحبة، والآفاق البعيدة، في تلك القرية المتواضعة بمنازلها وغير المتكلفة بحياة أبنائها. تلك القرية كانت هي الفكر بالنسبة له مولداً ومنشأ، هي دفء الكلمة ملجأ وملاذا، هي قاموس اللغة أصولاً وأصالة. في تلك القرية الريفية تنفس خياله شعراً ونثراً، كما تتنفس الطبيعة بفصولها، سواء ما ابتسم له من فصولها أو اكفهر في كل فصل من فصولها، حتفى من دون تمييز أو قصور، كما يقول الدكتور/ متري نبهان، فقد عزف على كل الأوتار، وصعد معظم الألحان، وذلك بفعل المحبة المتفجر بها قلبه إخلاصاً للطبيعة. لم أجد أديباً من أدباء المهجر تفاعل مع البيئة الريفية بجميع عناصرها تفاعل رياض معلوف. وقد رسم هذا التفاعل بأدق الصور في كتابيه«صور قروية» و«الريفيات»، اللذين تعدى فيها الوصف والتصوير إلى رسم النماذج البشرية الريفية وأبعادها، موظفاً لها كل ما يمتلك من أدوات وطرائق تعبير حتى جاءت بعض موضوعاتها أقرب إلى المذكرات أو الذكريات. وقد قدم للأول بقوله:«هذه الصور كتبتها بسواد العين، كيف لا، وأنا شدتني إلى لبنان أواصر الرحم، وحبال الشوق، بعد ما هجرته زمناً، فراودتني أحلام العودة إلى «زحلة» وواديها، ورحت أستعيد ذكريات الطفولة والصبا في الأمس الغابر، فكل صورة منها منتزعة من صميمي وحشاشتي وقلبي وستظل هذه الصور ترافقني طيلة حياتي، إلى أن يطفىء الموت نور حدقاتي ويمحوها..». من خلال أدب رياض نستشف حبه للطبيعة التي أبدعها الخالق، حيث العذوبة والرقة، والهدوء والجمال، من غير تكلف أو تصنع أو استهجان أو تزييف فعشقه للطبيعة من منطلق إنساني بحت، يصل إلى درجة الاغراق في مخاطبة الأرض والتراب،والنبات والحيوان. وفيما يبدو أن هذا الامتزاج في المجتمع الريفي، هو الذي جعل منه شخصية مرحة، حاضرة النكتة والبديهة، خفيف الظل، بارع الحضور، محدث لبق، قد يؤثر العزلة ولكن بدافع الحذر، صريح في علاقاته الاجتماعية. ولم يكن للجدية التي اتسم بها الأدب المهجري، وبخاصة لدى أصحاب الاتجاه القومي نصيب من أدبه، إذ كان بعيداً كل البعد عن الممالقة والمداهنة والتصلف، وغيرها من صفات قد يكون مبعثها الانسياق إلى حزب سياسي معين تظل فيه أهداف الأدب.وإذا ماقورن رياض معلوف بغيره من أدباء المهجر وجدناه غير مكثر من الشعر، بل كل ما صدر عنه جاء على شكل مقطوعات غنائية، ولكنها بشكل أو بآخر ترسم لنا الأطوار التي مر بها أثناء تكوين حياته الأدبية، كما نقف من خلالها على الفرق الجلي بين نتاجه في المهجر والوطن، ولاشك أن ذلك الاختلاف من تأثير اختلاف البيئة من جهة، وتطور شخصيته الأدبية ونموها من جهة أخرى. ففي ديوانه«الأوتار المتقطعة» وهو باكورة الانتاج تبدو نزعة التشاؤم في شعره، مصطبغة بنظرة سوداوية حيال الوجود، على غرار نهج أخيه فوزي المعلوف الذي كان التشاؤم سمة شعره، حيث نجد ذلك في قول رياض. إيه ربي! خلقت عيني لدمعي وفؤادي عبدالشقا والعذاب وخلقت الممات مثل خريف يفقد العمر في ربيع الشباب إن نفسي في كف عمري سراج زيته الدمع من نجيعي المذاب شحّ دمعي فأخفق النور فيه كاحتضار الضياء عند الغياب أما ديوانه«خيالات» فقد حاول فيه الانطلاق على سجيته، والتحرر من التأثر بطرائق سواه، ولذا نجد إلى جانب نزعة اليأس من الحياة والتبرم منها أخذت تطل في شعره نزعة التلذذ بمباهج الحياة والإقبال على مسراتها، ويمكن أن يمثل هذا اللون الجانب اللاهي من أطوار حياته التي تحكي عبث الشباب، حتى ليبدو فيها شيء من الهبوط الفني المفضي الى السطحية أحياناً على نحو من قوله: هذه الدنيا لنا/لحبيبي، لي أنا/فتمتع يا حبيبي/فالمنى تتلو المنى/طالما أنت بقربي/كل شيء هاهنا وحين تقدمت به السن وآب لوطنه،، وهمدت في نفسه جذوة الصبا ونزق الشباب، تخلى عن رومانسيته المفرطة في التشاؤم، واتجه بشعره اتجاهاً اجتماعياً، كان- فيما يبدو- بسبب انغماسه في حياة الريف التي وجد في أعطافها الملاذ الآمن بعد رحلة طويلة من الضياع والحيرة والتعلق بالمجهول. وفي هذا اللون من شعره نجد الطرافة في التعبير، في اللفظة والصورة، وهي بلاشك نابعة عن ذاته العاكسة لمؤثرات تحوطه من معالم وكائنات، حيث نلمح في قصيدة«صباح الثلوج» غير صورة شعرية ريفية من خلال تساؤله: أكمام من ياسمين نثير فوق ريش الحمائم البيضاء أم شراع على العيون تهادى إثر تلك العواصف الهوجاء أمل أبيض أطل علينا بعد تلك الغمائم السوداء إلى أن يقول في القصيدة نفسها: سرت في الثلج مع رفيقة قلبي في دروب الطبيعة الخرساء والورود البيضاء تهوي علينا كنجوم تهوي من العلياء هكذا الثلج لفّنا برداء والهوى لفنا بألف رداء هكذا هو في معظم أشعاره- كما يقول الدكتور/ عمر الدقاق «ذو مزاج انبساطي سمح يأخذ الحياة من أيسر جوانبها، إنه شعر الأداء الحسي، شعر بطبيعته غنائي الطابع، فهو أبعد ما يكون فيه عن الروحانية والتأمل الذاتي» ولرياض معلوف دراسات أدبية وتاريخية استأثرت باهتمامه منها: 1- شعراء المعالقة، اصدار المطبعة الكاثولوكية في بيروت سنة 1962م. 2- الشاعر فوزي المعلوف، المطبعة البوليسية، لبنان 1979م. 3- شاعر«عبقر» شفيق معلوف. 4- العلامة عيسى«سكندر المعلوف، صدر في صيدا لبنان 1961م. 5- تاريخ فخر الدين الثاني، المطبعة الكاثولوكية بيروت 1966م. كما صدر له عدة مؤلفات باللغات الأجنبية منها كتاب- تلاوين- حبات ورمال- الفراشات البيضاء- شعر المرأة والخمر عند العرب- غيوم.