تمثل دراسة الثقافة الشعرية، مدخلاً مهماً لمعرفة وضع مجتمع ما. وبما ان الثقافة والثقافة الشعرية بخاصة، هي النسق الذي ينظم أفكار ومعتقدات وقيم ومشاعر أبناء هذا المجتمع في برهة تاريخية محددة، ويجسد نمط حياتهم، فلمعرفة هذا النسق انما تجعلنا نستطيع ان نكشف ملامح هذه البرهة من جهة وخصائص هذا النمط من جهة أخرى. من جانب آخر، فإن بامكان الباحث أو الدارس أن يجد تطور المجتمع وتغيره أو صورته الواقعية أو المأمولة، في الثقافة بعامة والثقافة الشعرية بخاصة، حتى قبل أن يحدث هذا التطور أو ذاك التغيير، اذ من خلال الثقافة، يحدث التمهيد الذهني الضروري، كي يتقبل ابناء المجتمع هذا التغيير، أو يسهموا فيه، وذلك تبعاً لطبيعة العلاقة بين النظام الحاكم والشعب، وتبعاً أيضاً لطبيعة الاندراج في التغيير ذاته والمقبلين عليه. في هذا الاطار يأتي كتاب الاستاذ أنور ضو عن الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً على رحيل"قديس الوطنية العربية"كما وصفه جورج صيدح في"أدبنا وادباؤنا في المهاجر الأميركية"ص 323 وشاعر القومية والانسانية كما وصفه أنور ضو نفسه في كتابه"الجانب القومي في ادب الشاعر القروي رشيد سليم الخوري"ص 108. جدد الكتابة وقد جددت هذه الدراسة/ البحث أو الحديث عن الثقافة العربية بين عامي 1887 و 1984. وهي حقبة تاريخية بالغة الأهمية، عاشها الشاعر واندرج في احداثها، الرجل الذي يتحدر من اسرة متوسطة الحال، نزحت من بلدة الشوير في جبل لبنان مع انهيار الشهابية عام 1842 الى بلدة البربارة، حيث أبصر رشيد النور ودرج على ملاعب مدرستها متتلمذاً على الشاعر قيصر وحيد الغرزوزي والمدرس ايليا نصار، فرضع لُبان الشعر تحت أرز تنورين ودروب البرارة، قبل أن يتابع دراسته في مدرسة الفنون الأميركية بصيدا ومدرسة سوق الغرب فالكلية السورية الانجيلية الجامعة الأميركية ببيروت، من دون أن ننسى حياته الثقافية الحافلة بالتدريس طيلة سبع سنوات، وقد امضاها متنقلاً بين مدارس طرابلس والميناء وبشمزين وزحلة والشوير وسوق الغرب، حتى كانت هجرته الى البرازيل في العام 1913، مستبقاً نشوب الحرب العالمية الأولى بعام واحد، تماماً كما كان يستبق معاني الاحداث في معانيه الشعرية. الاداة المعرفية استطاع أنور ضو بما امتلكه من اداة معرفية استقصت جميع جوانب الحياة القومية في الثقافة العربية بعامة وثقافة الشاعر القروي بخاصة، أن يجيب عن جميع الهواجس التي تتبدى للباحث خصوصاً عندما يتصدى لدراسة الجانب القومي في شعر أحد ابرز عمالقة الشعر العربي القومي منذ فجر ظهوره في أواخر القرن التاسع، حتى برهة أفوله في اواخر القرن العشرين. تناول ضو في دراسته التي امتدت الى خمسة فصول: 1 - عصر القروي وبيئته في مرحلة تفتح الوعي القومي عند العرب، حيث عرّف بالقومية وبنشوء الفكر القومي العربي وتفتحه في القرن التاسع عشر، وصولاً للحديث عن الحركة القومية العربية وظهورها وامتداداتها في القرن العشرين. 2 - كذلك تناول الباحث دوافع الاتجاه القومي عند الشاعر القروي، ملتقطاً هذه اللحظة الشخصية المهمة عند رشيد سليم الخوري من زاويتيها الأساسيتين: زاوية الاتجاه القومي عند شعراء المهجر الجنوبي ويريد بهم شعراء المهجر في اميركا الجنوبية، وخصوصاً في البرازيل حيث كان قد انضم الى قيصر سليم الخوري وفوزي المعلوف وشفيق معلوف ورياض معلوف والياس فرحات وشكر الله الجر وعقل الجر والياس عبد الله طعمة أبو الفضل الوليد ونعمة قازان وغيرهم.وزاوية الاتجاه القومي عند الشاعر القروي نفسه الذي حل في مدينة مريانا من اعمال ولاية ميناس مختزناً في صدره حمماً تكاد تنفجر براكينها. اذ كان يحمل الكشة ليبيع الأقمشة ويطوف في أنحاء البلاد منخرطاً بين سواد الغربان وسواد العيران، وهو الذي اكتحلت عيانه ببياض ثلوج لبنان، فيكظم غيظه من اللقب الذي اطلقوه هناك عليه"توركو". 3 - في الحنين الى الوطن ودوره في اذكاء الروح القومية، اختار"ضو"تسليط الاضواء على ما سماه الحنين الرومانسي عند القروي والحنين الوطني، فقال ان الحنين الرومانسي برز في هروب الشاعر ولجوئه الى وطنه من شقاء الغربة ومتاعب الحياة وآلام التشرد والحرمان، وهو شبيه بالتجاء الشعراء الرومانسيين الى الطبيعة وهروبهم اليها من تعقيدات المجتمع ومرارة الحياة. اما في حديثه عن الحنين الوطني، فقد وجده"ضو"في ما تمثل في شعر القروي من الحنين الممتزج بالحسرة والألم لرؤية الوطن مكبلاً بقيود الاستعمار، مباحاً للغريب ومحرماً على ابنائه، تقتسمه الطائفية والحزبية وتتناهشه الدول المستعمرة، وأبناؤه مقيدون لا يستطيعون الدفاع عنه، فغنّاه الشاعر وأغناه بقصائد الحب والعهد والشوق والوفاء، مدركاً بذلك معنى الوطنية المتمردة على الأوضاع السياسية المعقدة. اما في حديث الباحث عن المفهوم القومي عند القروي، فقد ناقش مسائل عدة مثل القومية والعروبة كما تجلت في شعر الشاعر، وكما صرح عنها في أحاديثه المتوالية على صفحات الجرائد مستعيراً منه قوله:"العروبة شعار الامة العربية وروحها وشمس أوطانها ومهوى أفئدتها وملتقى ما تعدد من أقاليمها ولهجاتها، العروبة دين الأمة الشامل، والدين ايمان ومحبة وتعاون وخير عميم، وبرنامج العروبة ليس أبجدية مواد وبنود، بل هو معانٍ تعمر بها القلوب ومناقب تحفل بها سير أبطالكم في العصور". كذلك تحدث ضو عن مفهوم القومية العربية وعناصرها المتفرقة في اللغة والتاريخ والدين من جهة، وهي عوامل ثابتة عنده في المفهوم القومي، إضافة الى الآلام المشتركة بين اهل الاقطار العربية وأمانيهم القومية وقيمهم الكبرى ومثلهم العليا، ناهيك عن وحدة النسب التي تؤلف بينهم، ومن هذه العناصر ما هو ثانوي وما هو اساسي في صياغة المفهوم القومي عند الباحث، اذ نراه يتحرى الدقة في اطلاق المسميات على المجردات، فلا يستثنيها الا حين تقترن القرائن الشعرية بالقرائن الفلسفية في تحديد مفهوم القومية العربية. تابع الباحث جهاد"قديس العروبة"في الحرية والعدالة والاستقلال كمشروع ثقافي اعتيادي منذ تأسيسه على حب الشعر وطيلة سحابة عمره المديد. وهو الذي شهد على التحولات السياسية والاجتماعية والجغرافية خلال قرن من الزمن، فما بالك اذا كان هذا القرن من اغنى القرون التي شهدتها البشرية في تاريخها الطويل؟ ولهذا نراه يتوقف عند شعر القروي في مقارعة الاستعمار، فأبرز شعره في النضال ضد الاستعمار العثماني تماماً كما ابرز شعره في النضال ضد الفرنسيين والأوروبيين، وإذ كان القروي يشهد على ضياع فلسطين من خلال المؤامرة اللئيمة التي جمعت الصهيونية العالمية بالماسونية العالمية و بالامبريالية العابرة للقارات، فقد كشف ضو في دراسته ايضاً هذا الجانب النضالي والجهادي ضد المستعمرين اليهود ومن ساندهم في مشروع اغتصاب الوطن الفلسطيني واجلاء شعبه عنه من اجل استيطان اليهود فيه. وقرأ ضو جريمة"سايكس بيكو"ووقائع احداثها في تمزيق الوطن العربي الى دويلات في شعر قديس الوطنية العربية، وجهاده في سبيل صون الوحدة وطرد الاستعمار وعدم الرضوخ الى املاءاته المشينة والمذلة في صناعة الكيانات المستقلة، واستشهد على ذلك بجملة من عيون قصائده وفرائد ابياته ومن ذلك قول القروي: شمس العروبة عيل صبر المجتلي/ شقي حجابك قبل شق الرمس لي. وقوله أيضاً ينعى تعدد الكيانات العربية: ومزقنا الارشاد عشرين دولة/ ومن نحن عند العد كي نتعددا. توقف ضو في هذا الفصل الممتع في ما وجده من جهاد التسامر القروي ضد معوقات النهوض القومي العربي. وقد استقرأ كافة جوانب هذه المعوقات فيما شف عنه شعر القروي في مقارعة النزعات الاقليمية والنزاعات الطائفية، والاقتتال الداخلي البغيض والعمالة للاستعمار، أو الجهل والفساد والفوضى، وهو يستشهد في غير محل من بحثه على صدقية المقارنة بين شعر القروي وتحليله الشخصي: يا مسلمون ويا نصارى دينكم/ دين العروبة واحد لا اثنان / بيروتكم كدمشقكم ودمشقكم/ كرياضكم ورياضكم كعمان / ستجددون الملك من يمن الى/ مصر الى شام الى بغدان / وستكلفون حضارة الدنيا كما/ كفل الجدود حضارة اليونان. من جانب آخر، استوقفت الخصائص الفنية التي تميزت به قصائد القروي الباحث المجدد، فتوقف عند الشكل الذي اعتمده والأسلوب الذي افرغ فيه معاناته وأفكاره، والمضمون الذي اجمل فيه جملة مواقفه الحماسية والنضالية والفخرية والوصفية والمدحية، وقد بدا له ذلك واضحاً في استهلال القصائد بأسلوب ابي تمام ونمطه الشعري: ان ضاع حقك لم يضع حقان/ لك في نجاد السيف حق ثان / ما مات حق فتى له زند له/ كف، لها سيف له حدان. وفي مطلع له يرد فيه على"وعد بلفور": الحق منك ومن وعودك اكبر/ ما حسب حساب الحق يا متجبر / تعد الوعود وتقتضي انجازها/ مهج العباد خسئت يا مستعمر. القومية والانسانية يتحدث ضو عن هذا الجانب في أدب القروي، فيجده على رأس مجموعة الشعراء المهجريين في أميركا الجنوبية الذين طرقوا مواضيع انسانية كثيرة ومتنوعة وما كانت ثورتهم لوطنهم وامتهم الا مدفوعة بحوافز انسانية وقبل أي شيء آخر، وبرأيه انه كان في طليعة الشعراء المهجريين الذين اعتبروا أن من شروط الحب الانساني، محبة الأوطان والجهاد في سبيل حريتها. اليست محبة الوطن جزء من محبة الانسانية، ثم يتساءل فيقول: ألا يكون الاسهام في تحرير الوطن بعضاً من الواجب المفروض على المرء تجاه الانسانية التي يشكل وطنه جزءاً منها؟ ويستشهد الاستاذ ضو بما قاله عبدالرحمن بدوي في هذا الموضوع في كتابه الانسانية والوجودية في الفكر العربي المعاصر، افلا يقضي التوجه الانساني ان يسعى المرء الى تحرير اخيه الانسان؟ ثم اليس الأقربون هم اولى بالمعروف. والواقع أن الاتجاه الانساني عند القروي مثلما كان قائماً على الايمان ومحبة الناس والحب الانساني، فانه كان يصدر عن ايمان عميق بالقومية العربية بجميع مقوماتها القائمة على وحدة اللغة والتاريخ والآمال والآلام والقيم والمثل والشعور بوحدة"عقيدة قروية"جديدة تستوعب عقائد العرب جميعاً، فتلتقي عنده وتتسامح وتتحاب، وتعمل لخير العرب في كل اقاليمهم وأقطارهم. ويقول الاستاذ ضو: إن هذا الاحساس القومي النبيل، لم يكن قائماً على التعصيب والشوفينية، ولم يضمر البغض للقوميات الأخرى في العالم الرحب، بل هو نابع من معين انساني صرف، تآلفت عند صاحبه القومية والانسانية على عمق شعور ورهافة حس وتعاطف دائم مع بني الانسان في كل مكان. وهذا ما جعل ايضاً عبد اللطيف شرارة يقول فيه: لو كان لنا أن نقدم للناس مثلاً أعلى على شاعر عالمي، نباهي به أمم الأرض في صدق الشاعرية وسلامة الحس الانساني وعلو النفس ونقاء الروح والتطلع الى اسمى آفاق الخير والجمال والمعرفة وحب الحقيقة والدفاع عن الحق، لما وجدنا خير من الشاعر القروي. ربما كان في ذهن أنور ضو الأديب العربي والمناضل القومي ان يجدد الكتابة عن الشاعر القروي بعد ربع قرن على رحيله، لمعرفته بالاحتياجات الثقافية للمجتمع العربي بعامة والمجتمع اللبناني بخاصة وهو كبير موظفي الدولة. خصوصاً حين ينظر في تعدد فئاته وطبقاته وبيئاته وتعقد المكونات الثقافية في حاضره وامتداداتها في ماضيه ومستقبله، فهو بلا شك أمر أصعب كثيراً من سائر الاحتياجات الاقتصادية التي ينظر فيها اركان الدولة، لأن هذه المعرفة لا يمكن ان تتم بناء على ارقام ولا على تقارير رقيمة تصدرها الهيئات الرسمية. ولهذا انصرف ضو الى معرفة الأساسيات من هذه الاحتياجات التي تمثل نسق القيم المستقر والثابت والممتد من أزمان الى اخرى وهو الذي يمكن ان يسمى بالهوية. وقد وجد ضو في أدب القروي ضالته، فسعى الى هذه الدراسة من خارج حقل عمله في الديوان ليقول لأهل الديوان: شعراء وأدباء ومثقفون وعمال وموظفون بسطاء وعظماء، حيث هم الغالبية الساحقة في المجتمع اللبناني، وهم الذين يعتمدون في ربوع الوطن ساحله وجبله، بره وحضره، ان رسالة القروي يجب أن تكون رسالة كل لبناني خصوصاً في عصر الانحطاط الذي نلجه كما يلج"الجمل في سم الخياط". فالاحتياجات الثقافية التي تشمل عناصر الثقافة المعروفة تقليدياً، اي الابداع الفني والادبي والفكري، جعلها انور ضو وهو كبير موظفي الديوان تشمل ايضاً ما يدرجه علماء الاجتماع تحت مصطلح"شغل اوقات الفراغ"، ويدخل فيها دور الاعلام والتعليم والمؤسسات الدينية والرياضية من خلال خبرته المباشرة التي انتهت الى نوع من الاستشراف لمستقبل الثقافة اللبنانية في ظل التطورات الحالية للمجتمع اللبناني المتجدد.