المشهد الثقافي العربي الحافل في الاسابيع الأخيرة امتد من بيروت حيث التظاهرة التي نظمها المنتدى الثقافي هناك في نهايات العام 1999م إلى القاهرة حيث معرض الكتاب الدولي السنوي هذه الايام، إلى الرياض حيث الجنادرية بفعالياتها المتعددة، وحيث إعلان اليونيسكو للعاصمة السعودية عاصمة للثقافة العربية للعام 2000,, في هذا المشهد الثقافي الاحتفالي المتنوع الاهتمامات لا أظن الا أن المسهمين فيه تقلقهم مقتضيات الكوكبية أو الكونية أو العولمة وما تنطوي عليه من أضرار ليس من أهونها تهديد الطابع المحلي للثقافات، فضلاً عن اللغات الوطنية والاعراف القومية التي كما يؤكد محمد الخولي ستحلها هذه الكوكبية في المرتبة الثانية او الثالثة وربما الأخيرة بعد ثقافات أخرى نازحة حتى في اهتمامات الناس المعنيين من المنتمين الى تاريخها وحضارتها، ومثل هذا الخطر لابد أن يزداد استفحالاً في البلاد الضعيفة اقتصادياً وسياسياً مثل بلاد العالم الثالث التي هي ببنيتها الهشة معرضة للضغوط والغوايات. إن من أهداف العولمة الثقافية كما يعلم الجميع التعدي الصريح والمباشر على القوميات الثقافية في العالم، وهذا يتحقق بتقديم مضامين وصور تنتمي إلى ثقافات الأقوياء، وهي تخترق الحدود الجغرافية والسياسية والقانونية للشعوب الأضعف، ويتم ذلك عبر وسائل ليست غامضة من أبرزها امتلاك الشركات الضخمة التي تنتج الثقافات الشعبية كالسينما والموسيقى، وعبر الزيادة الضخمة في الاعلان خاصة الاعلان عن السلع الأجنبية, فعولمة الاعلام كما يراها د, محمد شومان عملية تهدف إلى التعظيم المتسارع والمستمر في قدرات وسائل الاعلام ووسائل المعلومات كي تتجاوز الحدود السياسية والثقافية بين المجتمعات، وذلك في إطار عملية توحيد ودمج أسواق العالم من ناحية، وتحقيق مكاسب لشركات الاعلام والاتصال والمعلومات متعددة الجنسيات من ناحية ثانية. إن الأقوياء لم يكتفوا ببناء الشركات الضخمة المنتجة للثقافة، بل هم ماضون في تحقيق اندماجات كبيرة تزيد من فاعلية تلك الشركات, وكان آخر تلك الاندماجات وأكبرها ما حدث مؤخراً بين شركة أميركا أون لاين كبرى شركات الانترنيت وشركة تايم وارنر عملاق قطاع الاعلام, فقد أُعلن ان الشركة الاولى ستشتري الثانية في صفقة قيمتها 190 مليار دولار,, وبذلك ستشكل الشركتان امبراطورية هائلة يمتد نشاطها من المجلات وأفلام السينما إلى الانترنيت، وهي ستزيد في إغراق السوق الثقافية بمنتجاتها المنتمية الى ثقافة واحدة مهيمنة. ان رأس المال المتداول لهذه الشركة المندمجة في السوق حسب بعض المصادر الصحفية يصل إلى 360 مليار دولار, وفي بيان اعلان الصفقة قال ستيف كيس رئيس اميركا أون لاين ومديرها التنفيذي: نحن نبدأ القرن الجديد بشركة جديدة فريدة تمتلك أصولاً لا مثيل لها، وهي ستكون ذات قدرة تأثيرية هائلة على المجتمع, ثم يضيف: وبالاندماج مع تايم وارنر سنغير بشكل كبير أسلوب تلقي الناس للمعلومات واتصالاتهم بالآخرين . إن الاندماج الأخير لهاتين الشركتين العملاقتين هو تتويج لانجازات متوالية في هذا المجال ظهرت بداياتها النشطة في الثمانينيات إذ أدركت الشركات المعنية بالانتاج الثقافي والاعلامي والمعلوماتي أهمية التكامل الرأسي في انتاجها فأخذ بعضها يعمل في مجال الصحافة والطباعة والنشر والتوزيع ومحطات التليفزيون واستوديوهات الانتاج, ومن هنا أخذت تحفل الأخبار بأسماء شركات تمَّ شراؤها أو اندمجت لتشكل كيانات أكبر وأكثر قوة وتأثيراً, وفي هذا السياق قدم باج ديكيان كما يذكر د, محمد شومان قائمة باندماج لشركات اعلام واتصال في الولاياتالمتحدة تغطي الفترة من 1966م إلى 1994م وخلص إلى أنه بحلول التسعينيات كانت سبع عشرة شركة اعلام ضخمة تحصل على نصف اجمالي العائدات من كل وسائل الاعلام بما في ذلك التسجيلات الصوتية والكيبل والفيديو كاسيت, وكان هذا التجميع قد أدى إلى تقليص اللاعبين من 46 سنة 1981م إلى 23 سنة 1991م. والشركات الاعلامية المتعددة الجنسيات على الرغم مما تتوافر عليه من امكانات ضخمة لاختراق الحدود القومية والثقافية حرصت أيضا على العمل عبر وكلاء محليين وتتخذ هذه العمليات أنماطاً وصيغاً مختلفة كما يقول د, محمد شومان فهناك اتفاقيات لإعادة البث وشراء البرامج او الانتاج المشترك للمواد والمضامين الاعلامية، علاوة على توجيه استثمارات مباشرة حيث استثمرت Cap Citien A.B.C.100 مليون دولار في انشطة تليفزيونية اوربية في فرنسا واسبانيا والمانيا وتبعتها شبكة N.B.C. باستثمارات في أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية, كما حققت شركة تايم وارنر العديد من الصفقات الخارجية في روسيا والدول الاسكندنافية. إن هذا التعاظم المتوالي والمستمر في الكيانات التي تنتج الثقافة والاعلام يؤكد ان هذه الشركات قد أصبحت اليوم من اهم الادوات التي تهدف إلى توحيد ثقافة العالم الذي لا يعني سوى نشر الثقافة الغربية ونماذجها في السلوك وطرق التفكير كما لا يعني سوى تعزيز سيطرة تلك الثقافة وهيمنتها على عقول الناس ووجداناتهم في كل مكان من هذه الارض, ومحمد الخولي يقول: لو أصغيت قليلاً إلى مجموعة من الشباب البريء غض العود (في أي مكان من هذا الكوكب) وهم يتبادلون أحاديث الكومبيوتر او شواغل الانترنيت فلن تسمع لغة بعينها، لا قومية ولا أجنبية، سوف تسمع رطانة جديدة هي مزيج من مصطلحات الحاسوب، وهي أيضاً منحوتة من تعابير انجليزية أمريكية بالذات دارجة، وأحيانا سوقية ولكنها تفي بالغرض وتحقيق المراد, وفي كتاب العولمة والمجتمع العالمي لمؤلفه توني سبايبي يذكر ان الحكومة الفرنسية لاحظت ان انسياب الكلمات الانجليزية حاليا في الاستخدام الفرنسي قد بلغ عشرات الآلاف في السنة, وهذا يحدث لأن اللغة الانجليزية هي اليوم الوسيط الرئيسي للاتصال ومعظم أعمال الشركات المتخطية للحدود القومية هي مملوكة لثقافة اللغة الانجليزية (أمريكية تحديداً) وإضافة إلى ذلك فإن 80 في المائة من البيانات المخزنة في أنظمة الحاسوب هي مخزنة باللغة الانجليزية. إن اللغة الانجليزية هي اللغة المشتركة في كل أوروبا اليوم فالمنتج الثقافي الغالب المهيمن هو باللغة الانجليزية. وسنعود إلى استكمال هذا الحديث في الأسبوع المقبل إن شاء الله.