1- لا يملك المرء إلا أن يغبط الدكتور محمد صالح الشنطي على الجلد والشغف اللذين يحيلان مؤلفاته إلى مخزون ثري بالنصوص والمراجع التي تمتد في الزمان والمكان كاشفة عن عكوفه الدائم ومتابعته الشاملة لمادة أبحاثه ومظانها. وليس كتابه «النقد الأدبي المعاصر في المملكة العربية السعودية: ملاحمه واتجاهاته وقضاياه» إلا أحدها، فهو مجلدان تبلغ صفحاتهما ألفاً ومائة وأربعين صفحة. وهو، موضوعاً ومنهجاً وحجماً، قمين بالاهتمام وأن يثير كثيراً من ردود الفعل والتعليق والمناقشة، وذلك عائد- من وراء ما يمثله الدكتور الشنطي من جدية ومثابرة وأهمية اقترنت بدراساته في الأدب السعودي- إلى سببين: أولهما: أن الحديث عن بيئة أدبية ما هو توصيف لمناخ روحي وعقلي وثقافي، تعيشه تلك البيئة ولا تراه، وتمارسه ولا تعيه بقدر ما تدعي خلاف ذلك. والأدب والنقد معاً يتعاونان على تشكيل وعي يحجب الواقع المباشر ويخفيه ليغدو الحديث عنهما بتجرد علمي نوعاً من النفاذ الى الخصوصية الحاكمة لذلك الوعي. إنه التفكير في التفكير ذاته، والحديث عن الحديث ذاته وهنا تكمن الاثارة، فالفكرة السائدة تذهب إلى أن الأديب يصنع أفكاره وأن البيئة الأدبية تكيف معطاها الأدبي، والمسكوت عنه- دوماً- هو المساءلة المعاكسة انطلاقاً من دور المعطيات الأدبية والفكرية في صناعة الادباء وتكييف وعي بيئتهم الأدبية. كان الأديب حاكماً وهو الآن محكوم، وكان الناقد طليقاً وهو الآن مأسور في قيد الوصف وسجن التصنيف وجدران المعنى، فهل يستسلم ويصمت؟ هل يموت طائعاً؟ والثاني: ان مادة النقد ذاتها مادة جدلية اختلافية، والجدل والاختلاف فيها يتعدى المهمة والوظيفة والغاية الى المناهج والاجراءات والادوات. وبين الاختلاف في الغاية والجدل في المنهج مساحة متنوعة ومتعددة من الآراء والأقوال والأحكام والمواقف، وهي مساحة تتعلق بالنقد من الوجهة النظرية والفلسفية الإبستيمولوجية مثلما تتعلق بنمو هذه الوجهة النظرية المتصل والمفتوح على التغير والتحاور مع معطيات التجربة والفعل والممارسة. فضلاً عن أن النقد من حيث هو رؤية قيمية وتفسيرية يغالب دوماً في سبيل خلوصه للمعرفة ذوات اجتماعية تتصارع وتتجادل وتجد الحاجة دائماً إلى خصم تسلبه القيمة من أجل تحصين الأنا وزيادة صلابتها وتماسكها. وهناك تاريخ طويل من جدل النقد واختلافه يسند هذا التصور ويسك له مشروعية خاصة في الإطار المعرفي. 2- الإضافة إلى المعرفة هي، بكيفية ما، إضافة إلى منهج هذه المعرفة. ليس هناك منهج معزول عن المعطيات التي يعالجها ولا عن النتائج التي يفضي اليها. كل منهج لا ينفعل بالتجربة ويتغذى عليها نظرياً لا ينمو، ويمكن أن نقرر، هنا، أن المنهج يفارق مداره المعرفي بقدر ما يحتفظ لنفسه بالقطعية والثبات والصلادة. كيف يستحيل المنهج الى قيد؟ ذلك هو الوجه الآخر من السؤال: كيف تتلاشى من المنهج مقاصده المعرفية؟ أو السؤال: كيف يتكلس المنهج ويستحيل إلى دوغما dogma؟ .. ليست المناهج غاية في ذاتها بل هي وسيلة الى اثراء المعرفة وتطويرها. أمام كتاب الدكتور الشنطي :(النقد الأدبي المعاصر في المملكة العربية السعودية) يأتي سؤال المنهج ملحاً وحساساً. فالكتاب ينتمي إلى نقد النقد، وهو منطقة معرفية تتقاطع ابستيميا مع الفلسفة بأكثر من جانب: على مستوى الرؤية الجمالية، وعلى مستوى الايديولوجيا، وعلى المستوى الانطولوجي.. وقد بدأ هذا الفرع المعرفي يتطلع الى طرق وكيفيات تنأى به عن الجوانب السطحية الخارجية، والمعالجات اللفظية والشكلية، وما يتصل بذلك من طرق تقريرية، ويتجه نحو النسيج الداخلي نافذاً الى حركة الفكر ومستبطناً لانماطها وانساقها وصورها الكلية متخذاً من النقد ذاته، بوصفه نصاً معرفياً، مادة للتحليل والتركيب والتأويل. ولا ريب أن التطور المنهجي في العلوم الانسانية كافة قد منح نقد النقد عدة معرفية وجهازاً مفاهيمياً ومستويات من النظرية طوعت مهمته وكيفتها نحو الوفاء بمقتضيات معرفية ذات أثر بالغ في تحقيق التحولات الفكرية، وارساء نقلات وقفزات في طريق البناء للعقل العلمي والرؤية المنهجية التي لم تزل في عالمنا العربي رهن دوائر ضيقة ومحدودة في اطار النخبة. ولعل أكبر المكتسبات المنهجية المعرفية هنا أن أصبح النقد- كما أصبح الابداع- من حيث هو بنية معنى وشكل خطاب مادة مستقلة للقراءة والدرس تفضي بنتائجها المعرفية إلى ما هو أبعد من أن يرتهنه واقع أو تحاصره جغرافيا أو يشير إليه تأريخ. هكذا لم نعد نبحث في نقد النقد من أجل تصديق مقولات تاريخية أو اجتماعية أو نفسية .. مثلما لم يعد لازما البحث السوسيولوجي او السيكولوجي أو التاريخي من أجل الكشف عن بنية الخطاب النقدي وحركة افكاره، وان لم يمنع ذلك من التقاطع والتواصل الذي يثري المنهج ويزيده ثقة في آلته واطمئنانا إلى اجرائه. ومعنى ذلك أن نقد النقد دائرة معرفية لها خصوصيتها المنهجية، ولها مادتها، ولها وظيفتها واهدافها. وهي دائرة لا تستبدل بشرح الأدب شرح النقد، ولا بالوقوف على المضامين والاغراض الشعرية الوقوف على مضامين واغراض الدراسات النقدية، مثلما انها لا تستبدل بسيرة الأديب سيرة الناقد، ولا بالعوامل الاجتماعية والنفسية في دراسة نصوصه ذات العوامل في دراسة نقد الناقد. إنها تجعل من النقد ممارسة متصلة بالنصوص ولكنها مستقلة عنها، أي أن منظور العلاقة بين النص الإبداعي والنقد يستحيل من خدمة النقد للنص واستخدام النص للنقد إلى علاقة أخرى يستخدم النقد فيها النص، ليغدو هو نصاً لقراءة من نوع آخر. 3- لكن الدكتور الشنطي، لم يهتم كثيراً بتأسيس نظري يؤلف له منطقاً خاصاً بمادته، ويمنحه ما يشتق منه منهجاً للمعالجة وطريقة للاجراء في ضوء اهداف غير تقليدية أو مدرسية تقريبية وتبسيطية. ورغم ان الدكتور يصدّر كتابه بمدخل في أربعين صفحة فإن هذا المدخل لا يتجاوز التلخيص التبسيطي والاختزالي لابرز مشخصات النظرية الادبية وابرز اعلام النقاد العرب المحدثين في ضوء التصنيف التاريخي والجغرافي والفني والايديولوجي وعلى نحو يجسد صداهم للمؤثرات التاريخية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ويبرز طبيعة الجدل في المشهد النقدي العربي، لتكون الساحة النقدية السعودية- بعد ذلك- جزءاً من كل وفرعاً من أصل وهامشاً على مركز أو مراكز. ومن ثم يأتي منطلق البدء وحجر الزاوية في السطور الأولى من الكتاب، بالقول: «لعل من البدهيات التي لا تقبل الجدل أن الحركة النقدية المعاصرة في المملكة العربية السعودية جزء من حركة اشمل واعم هي الحركة النقدية العربية لذا فإن المدخل الطبيعي لدراسة هذه الحركة لابد أن يكون استقراء طموحاً يلم بالنقد العربي الحديث باحثاً عن جذوره التاريخية وبذوره المعرفية..» (ص6). هنا يمكن أن نلمس بوضوح كيف تستحيل مادة الرؤية إلى جدران تحاصر الرؤية، وكيف يستحيل المنهج إلى قيد لا يسمح بتخطي حواجز المألوف والمعتاد أو «البدهيات» بتعبير الدكتور. كأن المسألة هنا محصورة في العلاقة بين أصل هو النقد العربي الحديث وفرع هو النقد السعودي والمهمة هي رسم وجوه التعالق والكشف عن التشابه والتآلف بين الأصل وفرعه. وفي هذا الاطار، تحديداً، يمكن أن نجد التفسير لانصباب جهد الدكتور في سك القوالب والاصناف ثم البحث عما يملأها من أسماء النقاد وعرض مؤلفاتهم، حيث يكاد الكتاب أن يتحول إلى ما يشبه الخزانة ذات الرفوف والادراج التي يغدو ملؤها فيصل القضية وامارة الغاية! والسؤال هنا: ما الذي تخبئه علاقة النقد السعودي بالنقد العربي من دلالة؟!. هل نعود- ايضاً- إلى البدهيات ونرفع الشعار بايقاع يمتد من الشام لبغدان ومن مصر إلى يمن إلى نجد فتطوان، قائلين :«شعب عربي واحد»؟! وماذا نترك للفضاء الإنساني الذي نختزله دوماً في كياننا الصغير لتضيق بنا المساحة ويضيق بنا العقل؟! إن تعاطي الفكر والمناهج في حقبة أو بيئة أو عند أحد المفكرين أو النقاد بكيفية محددة ومن خلال قضايا معينة هو وجه من وجه تجليات العقل الانساني، وطبوغرافيا للوعي في كليته التي يتعاون القديم والجديد، والعربي والعجمي في الكشف عنها وتشخيص دوالها. وهذا الوعي في كليته هو ما طرح ويطرح اسئلة جذرية جاءت النظريات وتولدت المناهج كصيغة من صيغ الاجابة عليها سواء اتجهت تلك الاجابات من العقلي إلى الواقعي أو العكس فيما يشكل تاريخ المعرفة وديناميكيتها على امتداد الزمان. 4- وهنا لن يتركنا الدكتور الشنطي نتخبط في البحث عن زاوية النظر ومعيار القيمة التي تغدو الموضوعية والحياد المنهجي- في المعتاد- غطاء كثيفاً يحجب النظرة المباشرة عن الإطلال عليها عبر طرق الاختيار والتركيب والتحليل والتأويل التي تنتهي بالباحث الى مغزى وتكشف عن دلالة من وراء السطح وبعيداً عن وجوه الشبه التي لا تكاد تقول شيئاً. زاوية النظر ومعيار القيمة لدى الدكتور ماثلان في انطلاقه من فلسفة واقعية، تنظر إلى الإبداع في ضوء مرجعياته الاجتماعية أو النفسية أو التاريخية، وهو منظور تأتي اهميته من جانب معرفي خالص كما يتصور الدكتور في قوله: «وليس من شك في أن هذا المنحى في التعامل مع النص الأدبي ينزع الى الموضوعية في فهم الظاهرة الفنية منطلقاً من فلسفة واقعية» (ص7). أما المنحى المقابل فإن منطلقه مثالي، وهو ينظر إلى الإبداع بوصفه ظاهرة نوعية متميزة لا تطمح إلى أن تكون أكثر من فعالية لغوية جميلة، وينحصر جهد الناقد لديها في التعينات اللفظية والتشكيلية البنائية. وهذا المنحى، بعكس الأول، ليس له قيمة من الجانب المعرفي الخالص، ولهذا يعقب عليه الدكتور ، قائلاً: يعجز الفكر المثالي عن ادراك القوانين الموضوعية في حركة التاريخ والمجتمع وعن التفسير الحقيقي للظواهر لأنه يقطعها عن روابطها وسياقاتها الإنسانية» (ص40). هكذا تغدو الموضوعية مساوية للواقعية، إذ هي وجهها الآخر، وصيغتها التي تنتج اليقين المعرفي من جهة، وتحيل هذه المعرفة- من جهة أخرى- إلى قيمة عملية وناتج حسي في حركة التاريخ والمجتمع. ويمكن أن نقيس المثالية بصفة عكسية للواقعية فهي النقيض للموضوعية، أو بعبارة أخرى، إنها مساوية للذاتية فهي وجهها الآخر، وصيغتها التي لا تنتج إلا معرفة مزيفة للواقع، وتحيله إلى آراء وحاجات تمنع من أن ندركه إدراكاً صحيحاً. على ذلك أصبح ادراك المعطى الادبي- في تصور الدكتور- تابعاً للموضوع الواقعي: المرجع الاجتماعي أو النفسي أو التاريخي.. الخ. ولا ريب أن هذا التصور النظري لم ولن يقدم معرفة بالأدب والفكر والعلم لا في القديم ولا في الحديث، أعني تلك المعرفة التي تعي تولدها، وتاريخيتها، وحركيتها الخاصة. المناهج النقدية الأدبية المعاصرة الأكثر حضوراً وادهاشاً وغواية للنقاد، هي تلك المناهج التي تجتمع في وعيها النظري على ابستمولوجيا العلم المعاصر. وهو وعي نظري ادرك ما اصاب مبادئ ومفاهيم: العلية والمادية والموضوعية والزمان والمكان والحتمية.. من خلال التطورات الجذرية في الفيزياء النظرية والرياضيات والمنطق الصوري وعلى نحو أخرج العقل من سجن المفاهيم التقليدية تلك وحرر المنهج من قيد الموضوعية المزيفة واقعياً، ليغدو- مثلاً- انشطار الذرة معملياً نتاجاً خالصاً للنظرية وللعقل التركيبي، وليس انعكاساً وتسجيلاً وصفيا لوقائع أو تجريب. هنا أصبح الفكر يخلق الموضوعات، ولم تعد الموضوعية تعني وصف الأشياء من خارجها، بل أصبح معناها تركيب الاشياء من طرف الذات وتحويلها من معطى واقعي إلى موضوع معرفة. وعلى ذلك لا نجد، معرفياً، واقعاً خاماً إلا وقد اصطبغ بصبغة نظرية. وفي هذا يقول بلانشي R.BIanche :«وليس للمعرفة قاعدة سفلى أو مادة أولية وبنفس الكيفية ليس لها سقف أو قمة عليا بل لها انفتاح مزدوج من أسفل ومن أعلى». أي أن العلم يتعاطى مع تصورات انتجها العلم انتاجاً نظريا ، ثم ان هذه المعرفة بالموضوع- كما يرى بياجيه J.Piaget في ذات النسق- لا تنتهي ابداً ولا تعرف حدا، انها سلسلة من المقاربات المتتالية والمتعاقبة باستمرار. أصبحت الحاجة- إذن- إلى مناهج نقدية أدبية لا تغويها الاسطوانة القديمة عن (الواقعية) و(المثالية) غير قابلة للمساومة. وغدا من الجور أن نستهلك في واقعنا النتائج التقنية المذهلة للنظرية العلمية المعاصرة أو نقبل عليها طائعين بتدريس ابنائنا آخر النظريات في الماكروفيزياء، أو الرياضيات الحديثة، ثم يكون أمر تطويع المعرفة الأدبية العربية لما تفتق عن تلك النظرية من مناهج نقدية أدبية موضع نظر، وحب وكراهية، وأخذ ورد! وما يزال ركوبنا للسيارة هو الوجه الآخر لركوب الدابة، وجلوسنا أمام مفاتيح الكومبيوتر هو الصيغة المرادفة لضرب أصابع الطابعة الكربونية، أليس حقناً دائماً أن نفغر افواه الدهشة أمام عصر لا يمهلنا قليلاً لنفهمه؟!