السيطرة,, ومحاولات فرض الارادة كانتا دوماً من بين الصفات اللصيقة بالبشرية منذ القدم,, وكانت سبباً لكل صراعات الإنسان مع أخيه الإنسان,, هذا الصراع لم يزل حتى الآن يحكم حركة العالم وتفسير التاريخ وإن تعددت ألوانه وأشكاله وتعقدت حركته وآلياته التي باتت تمارس من قبل دول وحكومات وتدار من قبل مؤسسات وجيوش في بلدان العالم ذات النظم التعددية أو من قبل حكام أفراد في البلاد ذات النظم الشمولية الطابع,, ولكن الهيمنة في النهاية هي صفة لصيقة ببني الإنسان عن غيره من المخلوقات وستظل هي محور صراع البشرية في كل مراحل تطورها. إن السيطرة وفرض هيمنة دول معينة على مناطق أخرى من العالم كانت تسمى في وقت سابق استعماراً، وكان ذلك في القرن الثامن والتاسع عشر وصارت تسمى في نهاية القرن العشرين بالعولمة وهو اللفظ الذي يشير الى استئثار قوة عالمية واحدة بالسيطرة على حركة العالم، فالعولمة هي استئثار قوة واحدة باستعمار العالم أماالاستعمار فهو استئثار قوى متعددة بالسيطرة وفرض الهيمنة على مناطق وأقاليم معينة من العالم. لقد ارتبط لفظ العولمة بالهيمنة الامريكية على مقدرات العالم,, أوسعيها لهذا الهدف بفضل عوامل تفوق الولاياتالمتحدةالامريكية التي تتمتع بها علمياً واقتصادياً والذي يتميز بسرعته من حيث مبادراته وبعالميته من حيث نطاق انتشاره, هذا الى جانب تميزه عن غيره من تجارب التفوق العالمية حيث امتلاك التفوق الأمريكي لآليات خاصة لتنفيذه. وفي اطار سعى الولاياتالمتحدة لأن تكون دولة رائدة في العالم ونجاحها في أن تكون القوة المهيمنة شبه الوحيدة على حركة الكرة الأرضية استطاعت أمريكا تحويل نفسها من دولة شبه منعزلة في العالم الغربي الى دولة عالمية عظمى تتمتع بمكانة وهيمنة لم يسبق ان تمتعت بها دولة واحدة في العالم, وساعدها على ذلك التحول الديناميكيات الدولية في النصف الأول من القرن العشرين. وتعتبر الحرب الأمريكية الأسبانية في العام 1898 هي أولى الغزوات أو الفتوحات الأمريكية فيما وراء البحار,, لقد فتحت هذه الحرب شهية الولاياتالمتحدة وبسرعة للسيطرة على الباسيفيكي من هاواي وحتى الفلبين . ومع نهاية القرن أصبح الشغل الشاغل لمخططي الاستراتيجية في الولاياتالمتحدة هو تطوير نظرية امريكية تكون في صورة عقيدة استراتيجية محددة المعالم لفرض الهيمنة الأمريكية على المحيطين الباسيفكي والاطلسي عبر القوة البحرية,, ومن ثم بدأت أساطيل الولاياتالمتحدة في مزاحمة الأساطيل البريطانية في تلك المناطق, وفي وقت كانت بريطانيا تعرف بسيدة البحار,, والمتحكمة في حركة أمواج المحيطين الباسيفيكي (الهادي) و الأطلنطي (الأطلسي) . بدأت الولاياتالمتحدة شيئاً فشيئاً الادعاء لنفسها بوضعية خاصة كحامية وحيدة لأمن شمال الكرة الأرضية وهي الوضعية التي بدأ الحديث عنها من جانب الأمريكيين في مؤتمر (مونرو) وذلك عندما فرضت الولاياتالمتحدة هيمنتها على قناة بنما التي كانت قد شقت وهي القناة التي تعتبر صمام التحكم في حركة الملاحة عبرالباسيفيكي والأطلسي . لم يكن ادعاء الولاياتالمتحدة لنفسها مسئولية أمن شمال الكرة الأرضية نابعاً من فراغ,, بل استندت الولاياتالمتحدة في اطار سعيها لتوسيع أطماعها الجيوبوليتيكية الى التقدم السريع الذي كانت ولاتزال تتميز به في معدلات نمو القدرة التصنيعية للاقتصاد الأمريكي,, فقد كان الاقتصاد الأمريكي من القوة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى بحيث كان الناتج القومي الأمريكي يعادل 23% من حجم الناتج العالمي وهكذا تفوقت الولاياتالمتحدة على بريطانيا العظمى من حيث كونها قوة عالمية مهيمنة لها السبق والسيادة في عالم الصناعة منذ اكتشاف البحار. ولاشك أن ما كان يتمتع به المجتمع الأمريكي من ثقافة واعية ومشجعة للتجربة والابتكار من العولمة التي عززت من القدرات الاقتصادية للولايات المتحدة . وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى كانت تلك هي الفرصة الأولى التي مارست فيها الولاياتالمتحدة بصورة ملية مقدرتها العسكرية على المسرح الأوروبي وقامت الولاياتالمتحدة التي كانت تصنف على انها من الدول التي تتبنى سياسة الانعزال عن مشكلات العالم بنقل مئات الآلاف من قواتها المسلحة وبسرعة مذهلة عبر الأطلنطي الى مساحات القتال في أوروبا ,, وعلى أمواج الأطلنطي أبحرت أكبر قوات عسكرية منقولة بحراً من الموانىء الأمريكية الى الأراضي الأوروبية,,كان هذا أعلاناً لميلاد قوة عالمية جديدة في المساحة الدولية,, وكانت الحرب العالمية الأولى فرصة لأن تتحرك الدبلوماسية الأمريكية بمواكبة القوات العسكرية الأمريكية التي قصدت الى أوروبا,, ليبدأ الأمريكيون في فرض نموذجهم في فن الدبلوماسية بحثاً عن حلول للخلافات بين البلدان الأوروبية وهي الدبلوماسية التي عرفت بالنقاط الأربع عشرة الشهيرة لوود ورد ويلسون للتسوية السياسية في أوروبا وهي النقاط التي فرضت النموذج الأمريكي في العمل السياسي على أوروبا وهي النموذج الذي عززته النظرة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة . وكذلك ساعد نجاح الأمريكيين في حل الخلاف الروسي الياباني في الشرق الاقصى على تأكيد وضعية الولاياتالمتحدة كقوة عالمية صاعدة,,وهكذا كان التلاحم بين النموذج الأمريكي بأركانه الثلاثة السياسية والاقتصادية والعسكرية هو التجسيد المحسوس للقوة الشاملة للكيان الأمريكي على مسرح الأحداث والتفاعلات العالمية. والواقع أن الحرب العالمية الأولى كانت حرباً أوروبية الأبعاد ولم تكن حرباً عالمية بالمعنى الحقيقي,, وكانت هذه الحرب هي بداية الانحسار للهيمنة الأوروبية سياسياً واقتصادياًوثقافياً على بقية أجزاء العالم. وفي خضم أحداث الحرب العالمية الأولى,, والتي لم تكن في واقعها وحقيقتها سوى حرب أوروبية الطابع والنطاق,, لم تستطع دولة أوروبية بعينها حسم الحرب لصالحها,, بل ان مسار الحرب ونتائجها قد حكمتها الى حد كبير تدخل قوة غير اوروبية صاعدة هي الولاياتالمتحدة ومن ثم صارت أوروبا هي الهدف وليس الموضوع بالنسبة للقوة الأمريكية الصاعدة والباحثة لها عن مكانة دولية. وعلى الرغم من التدخل الأمريكي في الشأن الأوروبي علىنحوما كان في الحرب العالمية الأولى إلا أن هذا التدخل لم يصاحب بتدخل امريكا في الشئون العالمية خارج أوروبا ,, بل أكثر من ذل اتخذت أمريكا اتجاهاً معاكساً وعادت للتأكيد على تبنيها منهج الانعزال عن المشكلات العالمية حتى ولو كانت أوروبية المضمون. كان هذا الانسحاب النسبي للولايات المتحدة من على مسرح السياسة الأوروبية والعالمية بعد الحرب الأولى عاملاً مساعداً على تيارات شمولية في أروقة الحكم في بعض الدول الأوروبية وقد اكتسبت تلك التيارات الشمولية زخماً على المستوى الأوروبي خلال منتصف العشرينات وأوائل الثلاثينات. وعلى الرغم من تدعيم القوة العسكرية البحرية للولايات المتحدة ووجود أسطولين بحريين أمريكيين أحدهما في المحيط الهادي والآخر في الأطلنطي يفوق في قدراتهما تلك التي لدى القوة البحرية البريطانية ذات التاريخ العريق, فقد فضل الأمريكيون نهج الانعزال عن المشكلات العالمية والأوروبية. وتمشياً مع المفهوم الأمريكي بأن الولاياتالمتحدة هي دولة (قارة) أو شبه جزيرة في صورة قارة وما يعنيه هذا المفهوم من أبعاد أمنية فقد كان الشغل الشاغل لمخططي الاستراتيجية والدفاع الأمريكيين ينصب في المقام الأول على حماية الشواطىء والحدود الأمريكية المترامية الأطراف تاركين مساحة اهتمام بسيطة للمواضيع الدولية والمشكلات العالمية والتي كانت من نصيب الأوروبيين الى جانب اليابان من حيث الاهتمام بهاوالتسابق على إحراز نقاط الكسب بشأنها. وقد كانت الحرب العالمية الثانية هي بداية النهاية لحقبة الهيمنة الأوروبية على الشئون والسياسات العالمية,, ومن حيث نطاقها كانت الحرب العالمية الثانية عالمية بمعنى الكلمة ولم تكن حرباً اوروبية الطابع والنطاق مثلما كانت الحرب العالمية الأولى,, فقد تخطت الحرب العالمية الثانية حدود اوروبا ودارت أعمالها القتالية في ثلاث قارات بشكل متزامن وكذلك دارت أعمال القتال البحري في مياهي الباسيفيكي و الأطلنطي . لقد تمثلت عالمية الحرب الثانية في تقاتل شرق العالم مع غربه وذلك عندما التقت جيوش بريطانيا تلك الجزيرة الموجودة في أقصى الطرف الغربي لأوروبا,, مع جيوش الأمبراطورية اليابانية,, تلك الجزيرة الكبيرة التي تتألف من اربع جزر صغيرة في اقصى الطرف الشمالي لآسيا ,, التقت جيوش بريطانيا و اليابان في مساحات القتال في بورما والهند وصارت أراضي أوروبا و آسيا مسرح عمليات حربية واحد ومتصل. كانت محصلة ونتائج الحرب العالمية الثانية في بادىء الأمر في صالح النازية في ألمانيا حيث أصبحت ألمانيا في ظل الحكم الهتلري قوة شبه دولية تتمتع بوضع فريد في هذا الصدد بفضل انتصاراتها في مواقع قتال عديدة في العالم. وعلى الرغم من كون اليابان شريكاً لألمانيا الا أن انتصارات اليابان عسكرياً بقيت في تحليلها الأخير انتصارات ذات طابع إقليمي وليست انتصارات عالمية النطاق ولهذا فقد كانت اليابان إبان الحرب العالمية الثانية مؤهلة لأن تصبح قوة إقليمية في الشرق الاقصى وليست قوة عالمية مثل ألمانيا النازية . ورغم هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية الا أنها بقيت قوة إقليمية بعكس ماحدث لألمانيا بعد هزيمتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية,, فلم تصبح ألمانيا قوة أوروبية وذلك بفعل التدخل الأمريكي الروسي المضاد لألمانيا ونجاحهما في إنهاء وضع الهيمنة العسكرية لألمانيا مع المسرح الأوروبي,, وبالفعل حدث فراغ قوة في أوروبا بعد هزيمة النازي ولكن هذا الفراغ سرعان ما ملأته الولاياتالمتحدة و روسيا باقتسامها لأوروبا فيما بينهما. وهكذا تميزت الأعوام الخمسون التي تلت الحرب العالمية الثانية بالقطبية الثنائية الأمريكية الروسية واستباق كل قطب من أجل السيطرة على العالم. إن القطبية الثنائية في النظام العالمي وماشهدته من تسابق سوفيتي امريكي على المستوى الجيوبوليتيكي قد تحول الى سباق للسيطرة على مياهي الأطلنطي و الباسيفيكي بحرياً في مواجهة قوات برية في آسيا و أوروبا,, واصبح سباق الهيمنة الأمريكي السوفيتي هوسباق بين كتلتين عالميتين احداهما أمريكا الشمالية وامتدادها في غرب أوروبا وبينها خطوط مواصلات عبر الأطلنطي وبين الكتلة الأخرى التي تمتد في أراضي أوروبا الشرقية (أوروبا الآسيوية) ذات التوجه الشيوعي وتشمل اراضي الاتحاد السوفيتي وجمهورياته وكذلك الكتلة الصينية وهي المناطق التي كانت تشكل فيما مضى الامبراطورية المغولية. كان من الواضع أن ثمن الفوز لأي من الكتلتين السوفيتية والأمريكية هو السيطرة على العالم كله,, وكان أيضاً من الواضح أنه لامكان لقطبين في هذا العالم لايوجد بينهما صراع وصار لزاماً على كل قطب اما أن يكسب كل شيء أو يفقد كل شيء,, انه نوع من المباريات الصفرية بين القوي والغالب فيها مستمر. وانتقل الصراع السوفيتي الأمريكي للهيمنة على العالم من ساحات القتال الى ساحات العقول حيث الحرب الايديولوجية بحيث حاول كل طرف ترسيخ قيمه السياسية والاقتصادية ونموذجه في الحكم في عقول شعوب المناطق الواقعة تحت سيطرته وكذلك تصدير أيديولوجية البلدان الدائرة في ذلك القطب الآخر,, الأمر صار وكأنه حرب تبشيرية. لقد تميزت الهيمنة السوفيتية والأمريكية كل في مناطق نفوذه بأنها هيمنة كاملة وذلك على العكس من أنماط السيطرة الأوروبية التقليدية حيث كان لكل دولة أوروبية سيطرتها على مستعمراتها في خارج أوروبا لكن لم يكن لأي من الدول الاستعمارية الأوروبية سيطرة مطلقة على أجزاء أوروبية بخلاف حدودها الاقليمية. ويقدم البلد النووي علامة فارقة بين أنماط الهيمنة الأوروبية على العالم وأنماط هيمنة القطبين السوفيتي والأمريكي الى مناطق نفوذهما ابان الحرب الباردة حيث يقدم السلاح النووي دوراً جديداً لطبيعة الصراعات المسلحة يمايز بينها وبين الاشكال التقليدية للصراع المسلح,,, فقد صار الصراع النووي ينطوي على إمكانية تحقيق تدمير متبادل لكل طرف وفناء كامل للبشرية,, وصارت اعتبارات ضبط النفس هي العامل الحاسم في مثل تلك المباريات النووية. ولكن في ظل هذا الوضع الجيوبوليتيكي الأكثر تعقيداً نشبت أعمال قتال وحروب على حواف وأطراف أوروبا الآسيوية حيث مناطق السيطرة الشيوعية المتمثلة في الصينيين والسوفييت لم تتمكن من تثبيت نفوذها وهيمنتها على حواف وهوامش ذلك الإقليم (الأورو آسيوي),, ومن هنا بدأت القوة الأمريكية من جديد في تأكيد هيمنتها البحرية على أطراف الإقليم (الأورو آسيوي) من خلال إقامة رؤوس جسور بحرية للدفاع عن تلك الأطراف ومساندتها لإقامة سياج حديدي حول الشيوعية في الاقليم (الأورو آسيوي) لمنع خروج المرض الى خارج هذا الإقليم الموبوء. ويحدث كل هذا على الرغم من انفصال الكوريتين بعد حرب ضروس و إقامة سور برلين بين شرق ألمانيا وغربها,, وهكذا سعت أمريكا الى السيطرة على أطراف الكتلة المنافسة ومنها انتشار الشيوعية الى خارج أورو آسيا والعمل في الوقت ذاته على تدمير هذا التكامل من الداخل ومحاصرته من الخارج وهو ماعرف بالحرب الباردة التي كانت أنشطة المخابرات بطلها الأول والأخير,. وللحديث بقية,.