تجري اليوم، بل منذ ربع قرنٍ انصرم، تغيُّرات مذهلة في صورة التوازات الدولية، بعد انهيار الثنائية القطبية بين المعسكريْن العالميَّين، الرأسمالي و"الاشتراكي"، والدولتيْن الرئيستين فيهما : الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي. ولا تشمل التغيّرات الطارئة الميادينَ التقليدية للتوازن، على نحو ما استقر عليه أمرُها في حقبة الحرب الباردة، أي الميدانيْن الاستراتيجي الدفاعي والاقتصادي فحسب، وإنما تشمل ميادين التوازن العلمي والتِّقَاني، وما يندرج تحت عنوانيْهما من نتائج تنعكس على القدرتين العسكرية والاقتصادية أيضًا. وإذا كانتِ الثنائية القطبية انتهت، بنهاية ثمانينيات القرن الماضي، فإن التوازن في علاقات القوة على الصعيد العالمي ما انتهى بنهايتها، على الرغم من أن "نظام القطب الواحد" أطلّ على العالم منذ ذلك الحين، وأوحى عنفوانُه في بدايته بأنه باقٍ إلى ما شاء الله. ننطلق من فرضية تحليلية مفادها أن الاجتماع الإنساني العالمي لا يمكنه إلاّ أن يكون محكومًا بتوازنٍ بين قواهُ ومجتمعاته ودوله، وأن هذا التوازن يستمر مفعولاً حتى حينما يَخْتَل، في لحظةٍ من لحظات التاريخ، لصالح طرف على حساب آخر، وهو قد يستمر من طريق الاستبدال : استبدال قوةٍ بأخرى إذا كان الاختلالُ في التوازن حادًا إلى الدرجة التي يعجز فيها الطرف الخاسر عن استيعاب خسارته، واستعادة تماسكه المفقود. والفرضية هذه ليست نظرية-وإن كان لها في التفكير أصولٌ فلسفية-وإنما هي مشْتقَّة من مواد تاريخية باتت، من تواتر وقائعها وتكرار ظاهراتها، في مقام القانون، أو شيئًا بهذه المثابة. وتتلازم هذه الفرضية مع أخرى تقول: إن التوازن الذي قد ينهار في مجالٍ ما، من مجالات العلاقات الدولية، ربما أعقبه-والأرجحُ أنه يعقبه -توازنٌ آخر في مجالٍ من المجالات آخر. ولقد ينهار التوازن عسكريًا لصالح كفة من الكفتين، ولكن سرعان ما ينشأ توازنٌ آخر من نوعٍ جديد : اقتصادي، أو علمي، أو تِقَاني ... يعيد-في مرحلةٍ ما من مراحل تراكُمه-تصحيح الخلل الحاصل في التوازن العسكري. إن الأمر، هنا، أشبه ما يكون بنظام التوازن في الطبيعة ؛ إذا كان هذا التوازن هو ما يحمي الحياة (= الطبيعة)، ويحافظ على الأنواع وعلى البقاء، فنظيرُهُ في السياسة والعلاقات الدولية هو ما يحمي البقاء الإنساني من إرادة القوة العمياء، ويُبْقي على فُرصِ شعوب ودولٍ أخرى في الاستمرار والتقدُّم إمكانًا مأمونًا. التاريخ الحديث يُطلعنا على كثير من هذه الحقائق المتصلة بالتوازنات وسيولتها وتحوّلاتها، أو انتقالاتها من ميدانٍ لآخر؛ مرّ على البشرية حينٌ من الدهر كان التوازن الدولي قائمًا في العالم بين قطبين : بريطانيا العظمى وفرنسا. امتدّ ذلك زمنيًا، منذ الثورة الفرنسية-وخاصة منذ احتلال نابليون لمصر في العام 1798 حتى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين؛ مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. كسرت ألمانيا التفوّق العسكري للقطبين البريطاني والفرنسي-في عهدها النازي-بل دمّرته كليةً باحتلالها فرنسا ومعظم القارة الأوروبية، وتهشيمها قدرات بريطانيا العسكرية. ولم تنكسر شوكة ألمانيا في الحرب إلاّ بالمشاركة العسكرية للجيشين السوفييتي والأمريكي فيها ضدّ الجيش الألماني. حينها نشأ توازن دولي جديد بين النظامين السوفييتي والأمريكي عبّر عنه نظام الأممالمتحدة المحدث في العام 1945 ؛ عقب هزيمة ألمانيا ونهاية الحرب. انهار التوازن الدولي الجديد هذا، بعد العياء الذي دبَّ إلى أوصال نظامٍ- طرفٍ فيه، هو النظام "الاشتراكي" العالمي الذي قاده الاتحاد السوفييتي (السابق). الأسباب التي قادت إلى ذلك الانهيار عديدة : شيخوخة النظام السوفييتي ونظائره في أوروبا الشرقية، الإرهاق الشديد الذي أصابه من غزوه أفغانستان ومن سباق التسلح مع المعسكر الغربي، وخاصة بعد إعلان رونالد ريغان "مبادرة الدفاع الاستراتيحي" ( أو "حرب النجوم" كما سُمّيت في حينه)، انفجار المسألة القومية في المجتمعات السوفييتية، ثم انتقال آثارها إلى المحيط السلافي والجرماني في شرق أوروبا ثم إلى البلقان (الاتحاد اليوغوسلافي)، الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالمجتمع السوفييتي في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي ... الخ. لكن هذا الانهيار لم يَجْر بأثرٍ من حربٍ، كما حصل في انهيار توازنات سابقة، ما خلا الحرب الباردة التي خيضت بالوكالة في مناطق مختلفة من العالم. ولقد تَلَت ذلك الانهيار فترةٌ من الانفراد الأمريكي بصناعة القرار الدولي ظُنَّ، معها، أن نظامًا جديدًا لِ "الأحادية القطبية" قام يرث سابقه، وأن هذا النظام سيتكرس، مع الوقت، في غيبةٍ من منافِسٍ أو ندّ، وقد يصبح النظام الدولي المهيمن خلال القرن الحادي والعشرين. أوحت انتصارات أمريكا العسكرية في حروبها مع العراق وصربيا وأفغانستان بهذا الظنّ، مثلما أوحت به ظواهر أخرى جديدة مثل تمدُّد مجال الهيمنة الأمنية لمنظومة حلف شمال الاطلسي إلى حدود روسيا، شاملةً شرق أوروبا، ومثل الاحتكار الأمريكي لمعطيات الثورة التِّقانية والإعلامية والمعلوماتية، في المراحل الأولى من انفجارها، ومثل السيطرة الأمريكية المطلقة على القرار الدولي في مجلس الأمن أو مثل الانهيارات المتتالية داخل روسيا الاتحادية (في العهد البائس لبوريس يلتسين) في الاقتصاد وفي الأمن (انفجار أزمة الشيشان) ... الخ. ثم جاء مَن "يبشّر" ب " نهاية التاريخ" ( = فوكوياما)، مستعينًا بفلسفة هيغل وتأويلاتها الهيغلية (كوجيف خاصةً)، متخيلاً أن الوجود الإنساني خَلاَ، نهائيًا، من أسباب التناقض بعد انتصار الليبرالية على الاشتراكية، معززًا-بذلك-الاعتقاد بأن العالم صار محكومًا بعقلٍ واحدٍ أوْحَد هو " العقل الأمريكي" ! ولم يكن صمويل هنتنغتن قد بدأ يعدِّل، نسبيًا، من هذه العقيدة الظفراوية لفوكوياما وألسنة الإدارة الأمريكية، بتنبيهه أمريكا إلى أن نصْرها على الشيوعية السوفييتية ليس نهايةً لأعدائها، وأن عليها غدًا أن تخوض حروبًا أخرى ضدّ عالم الإسلام والكونفوشيوسية، والعالم الهندوسي والسلافي ...الخ - في كتابه "صراع الحضارات" -حتى كان على الأوحدية القطبية الأمريكية أن تبدأ عدَّها التنازلي، لتنطلق في الأثناء عملية صعود أقطاب جدد في النظام الدولي. وهكذا لم يكدِ القرنُ العشرون أن ينصرم حتى كانت توازنات جديدة تنشأ على الصعيد الكوني؛ بدأت في الاقتصاد والتِّقانة (= التكنولوجيا)، لِتََتَوالى في السياسة الدولية والأمن والقدرة العسكرية. ويمكننا، في هذا المعرض، أن نشير إلى محطات ثلاث قطعها هذا التوازن الجديد في الخمسة عشر عامًا الأخيرة : نشأت في المحطة الأولى، في الأعوام الأخيرة من القرن الماضي ومطالع هذا القرن، حالة من التعددية القطبية في الميدان الاقتصادي-والميدانين العلمي والتِّقاني استطرادًا-أتت تكتلات اقليمية ثلاثة تعبّر عنها (الاتحاد الأوروبي، النافتا، الآسيان). كان لاستعادة ألمانيا وحدتَها أثرٌ حاسم في اندفاعة أوروبا نحو وحدتها الاقتصادية والنقدية، كما نحو استدماج شرقها ("الاشتراكي" السابق) في منظومتها. ومن الطبيعي أن صيرورة أوروبا قوةً اقتصاديةً كبرى عالميًا ما كان له سوى أن يطلق سيرورة التكتل في مناطق أخرى من العالم (آسيا، الشمال الأمريكي) من أجل تحقيق التوازن مع القطب الجديد. مع استعادة روسيا عافيتها الاقتصادية، في العقد الأول من هذا القرن، وانطلاق المارد الصيني من قيوده التاريخية، وصعود قوىً اقتصادية عالم ثالثية جديدة، مثل الهندوالبرازيلوجنوب أفريقيا، بدأت المحطة الثانية من هذه التوازنات الجديدة تستكمل ما قبلَها، على صعيد القوة الاقتصادية، من خلال قيام قطبٍ اقتصادي عالمي جديد هو مجموعة دول "البريكس" (= البرازيل، روسيا، الهند، الصين،جنوب أفريقيا)، الأمر الذي اتسع به نطاق ظاهرة التعددية القطبية في النظام الاقتصادي العالمي. وها نحن نشهد اليوم، ومنذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن، تصحيحًا في الخلل الحاصل في التوازن العسكري-السياسي على الصعيد الدولي، من خلال تزايد القدرة الاستراتيجية الروسية -الصينية، وتعاظُم علاقات التفاهم السياسي بين موسكو وبيجين، وانعكاس ذلك على القرار السياسي في مجلس الأمن، وعلى العلاقة الأمريكية -الروسية في إدارة أزمات على الصعيد العالمي. وسوف يتزايد هذا المنحى في التوازن الاستراتيجي في ضوء حقيقتين جديدتين : تراجع الإنفاق الأمريكي على البرامج العسكرية، وتزايد الإنفاق الصيني-في المقابل-عليها، معطوفًا على الدخول التدريجي الصيني في معمعة السياسة الدولية بعد طول إحجام.