ما هي الدلالة الحقيقية لسقوط جورج بوش، ونجاح بيل كلينتون، في معركة انتخابات الرئاسة الاميركية؟ أعني على الصعيد الدولي لا الأميركي المحلي فقط. يبدو لي ان هذه الدلالة تكمن - أولاً - في أن أية دولة، حتى الولاياتالمتحدة، حتى أقوى دولة فوق سطح الأرض، لا تستطيع أن تزعم لنفسها دوراً دولياً يفوق قدرتها على مساندته بما تملكه من قوة ذاتية. لقد أراد بوش، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال "النظام العالمي الثنائي القطبية"، ان يقيم "نظاماً دولياً" وصفه بپ"الجديد"، لكن اراده في الحقيقة "نظاماً عالمياً أحادي القطبية" تتزعمه - بلا منازع - الولاياتالمتحدة لذلك ركز بوش جهوده على السياسة الخارجية قبل غيرها من المجالات، وجعل أحداثاً دولية بعينها اداته في اكساب أميركا مظهر الدولة المهيمنة عالمياً! والحقيقة ان صدام حسين - باجتياحه للكويت - اعطى بوش فرصة نادرة لتحقيق طموحه، اذ استطاع الرئيس الاميركي أن يحشد المجتمع الدولي بأسره ضد العدوان العراقي. وبامتطائه جواد التصدي لهذا العدوان، وضع مفهومه عن "النظام الدولي الجديد" موضع الاختبار، بصفته - في التطبيق - نظاماً خضعت فيه كل الاقطاب الدولية لسياسة هي من صنع القطب الاميركي وحده. ثم أكد بوش هيمنة أميركا، مرة ثانية، بنهوض وزير خارجيته جيمس بيكر بالدور الفاصل في استئناف المفاوضات العربية الاسرائيلية، وتدشين عملية مدريد. ولم يجد بوش حرجاً في أن يلجأ الى الأممالمتحدة كلما كان الاحتكام اليها من شأنه تكريس هيمنة اميركا، ولم يتردد في غض النظر عنها، كلما كان اللجوء اليها في غير مصلحة الولاياتالمتحدة. هذا ما حدث عندما وضعت ادارة بوش اسس آلية المفاوضات العربية - الاسرائيلية التي انعقد بمقتضاها مؤتمر مدريد. هكذا تصرف بوش، وكأنما كان أمراً طبيعياً ان يتمخض النظام الدولي الثنائي القطبية عن نظام أحادي القطبية، بيد أن ما لم يلتفت اليه بوش هو أن أوضاع اميركا الاقتصادية لم تكن تسمح بدور كوني للولايات المتحدة لا تنازعه فيه أقطاب أخرى، وقد وقعت انتفاضة لوس انجليس لتنبيه العالم كله الى هذه الحقيقة، اذ كشفت أن انشغال بوش باللعبة الدولية انما ألهاه عن اوضاع اميركا الداخلية، وما أصابها من تدنٍ. هناك من أرجع هذا التدني الى أسباب أميركية محضة، لا الى اللعبة الدولية، ولا الى طموح بوش بأن يكون لأميركا دور كوني يفوق قدراتها الفعلية. هناك من قال أن موجة "الليبرالية المفرطة" التي اطلقها ريغان وتاتشر، وهي فلسفة اقتصادية تقوم على تقليص دور الدولة و"خصخصة" الاقتصاد بلا حدود، انما هي خليقة بأن تشكل مرتكزات النظام العالمي الجديد، وهي التي قصدها المفكر الاستراتيجي الاميركي فوكاياما بقوله: "ان التوصل اليها انما ينبئ بأن التاريخ اقبل على نهايته"، بمعنى ان التاريخ ينتهي مع الانتصار الساحق لليبرالية، ومع هزيمة الشمولية الشيوعية هزيمة منكرة. بيد ان هذه الموجة شهدت امجد أيامها في ظل حكم ريغان، ثم تعددت الشواهد الدالة على انها في سبيلها الى الانحسار، وانها لم تكن نهاية التاريخ قط، بل مجرد دورة من دورات الرأسمالية المعاصرة. وكان انتصار كلينتون تعبيراً عن تعذر تقليص "التأمينات الاجتماعية" التي توفرها الدولة للمواطن الى غير حد، وتعذر الانطلاق من فرضية ان رفع الضرائب عن الاغنياء كفيل وحده بتنشيط دورة الاعمال، وامتصاص البطالة، وإيجاد رواج عام مزيل للفقر! وهكذا وبمقتضى هذه النظرية، فان بوش سقط، لا بسبب بنية النظام العالمي الجديد بل بسبب انتكاسة اصابت احوال الاقتصاد الاميركي. لعبة بلا حكم ولكن، أياً تكن أسباب سقوط بوش، وسواء كانت بسبب سياسة خارجية تفتقر الى سند داخلي ملائم، أو لأسباب داخلية فقط، فان الشيء المؤكد هو اننا اصبحنا بصدد لعبة دولية جديدة لم تكن في الحسبان، لعبة دولية بلا حكم! فلقد كان للنظام العالمي الثنائي القطبية ضوابط، وكان للنظام العالمي الذي سعى بوش الى اقامته، بديلاً عن النظام الثنائي القطبية - وهو النظام الاحادي القطبية - ضوابط هو الآخر، ولكن لا يبدو ان هناك ضوابط لنظام عالمي متعدد الاقطاب، نظام لا يملك فيه قطب محدد القدرة على تقرير ضوابط، وان تكون له كلمة فاصلة في التمييز بين ما هو جائز وما هو غير جائز. هذا ما نعنيه بقولنا ان اللعبة الدولية اصبحت بلا حكم، فلقد كانت هناك ضوابط للحرب الباردة، اذ انها كانت قائمة على الروادع المتبادلة، وقد فرض الاستقطاب الدولي الحاد نوعاً من الانضباط كانت الدول تعرف حدودها، وأصبح للعمل السياسي قواعد وأصبح التنبؤ بما هو ممكن انجازه وارداً، وأصبح للنظام الدولي بالتبعية ملامح. وربما صح القول أن النظام الدولي الاحادي القطبية لم يكن ممكناً استمراره الى غير أجل لعدم أهلية أية دولة، حتى الولاياتالمتحدة، لتبوؤ مركز القطب العالمي الأوحد، ولكن بدا، على الاقل في ظل حكم بوش، ان اميركا بوسعها فرض ضوابط، فلقد فرضت ضوابطها على النظام العراقي، وفرضتها في ما يتعلق بأسلوب معالجة النزاع العربي الاسرائيلي، ونجحت في الزام كل اطراف النزاع بالمجيء الى مدريد، بغض النظر عن عدم حماس هذا الطرف أو ذاك، وبالذات حكومة شامير. اما الآن وقد أعلن كلينتون انه سيخصص الأيام المئة الاولى من رئاسته للنهوض بالاقتصاد الاميركي، وان السياسة الخارجية لن تكون لها الأولوية التي حظيت بها من قبل، فمن بيده تقرير ضوابط على الصعيد الدولي؟ وما مصير نظام دولي لا يقوم على دولة بعينها، أو على جهة دولية بعينها، قادرة على فرض ضوابط، واتخاذها "حكماً" و"مرجعاً" ازاء القضايا الخلافية؟ قد يقال ان اميركا ليس من المحتم ان تكون هي وحدها المرشحة لاحتلال موقع "القطب العالمي الأوحد". صحيح أن أوروبا تمر بمرحلة مصيرية مع عمليات التصديق - الجارية الآن - على معاهدة ماستريخت، والتي ستقرر هل بوسع أوروبا، أصلاً، انجاز مشروعها الاندماجي، بيد ان زوال الاستقطاب الدولي الحاد قلل من مبررات الاسراع في انجاز المشروع الأوروبي، بل انه افسح المجال لبروز شروخ وتشققات في البنية الأوروبية. فلقد بلغ التشكيك حد اشعار البعض بأن أوروبا الموحدة انما تعني هيمنة المانيا، الدولة الاوروبية الاقوى، بالذات بعد استعادتها المانياالشرقية، وقد يوصف ذلك باعادة تحقيق حلم هتلر بسيطرة المانيا على مقدرات أوروبا كلها، ولكن بالقوة الاقتصادية في هذه المرة وليس بطريق الحرب. ولدرء هذا الخطر قد تسعى دول أوروبية شتى، وربما بالذات فرنسا، الى الحد من هيمنة المانيا بمحاولة "اذابتها" داخل عملية الاندماج الأوروبي. بيد أن هذا، في النهاية، انما يتوقف على موازين القوى بين الدول الأوروبية. والى الآن، لا نزال نرى ان بريطانيا لا تبدي الحماس المطلوب كي تسند فرنسا وتواكبها، في نهجها من أجل "إذابة" الكيان الألماني داخل كيان أوروبي أوسع. الشيء المؤكد أن أوروبا ليست مهيأة الآن كي تكون القطب البديل عن الولاياتالمتحدة، وكي تصبح هي الحكم في اللعبة الدولية الجديدة. كذلك لا يجوز لنا الادعاء بأن اليابان أصبحت هذا "القطب الأوحد"، أو أن النظام العالمي سيسمح لليابان، هذه الدولة الأسيوية الكبرى، بأن يكون لها دور كوني منفرد. فأميركا لم تتردد، عام 1945، في اللجوء الى القنابل النووية كي تردع اليابان، وما انسحب على اليابان، صاحبة القوة العسكرية المهولة وقتذاك، ينسحب على اليابان المتفوقة اقتصادياً وتكنولوجياً الآن! قد يقال ان للأمم المتحدة دوراً، وانه من المفترض - والمنطقي - ان يكون لها دور عالمي قيادي في ظل نظام دولي تعددت فيه صور التشابك والتداخل والاعتماد المتبادل بين الدول، ولكن حقائق العصر - كما تبدو حتى الآن - تدحض هذا الافتراض... فليس للأمم المتحدة - حتى الآن - مبادرات يمكن اتخاذها لتعظيم شأنها بل ربما كان للمبادرات الصادرة من منظمات اقليمية مختلفة داخل الاطار الأوروبي - مثلاً - ما يوحي بقدرة أعظم من الأممالمتحدة على ابتداع افكار جديدة، والاسترشاد بها لتنشيط صور مبتكرة من التحرك على الساحة الدولية! حالة اللاسلم واللاحرب ليس مسموحاً اذن للأمم المتحدة بأن تصبح "قطب عالمنا الأوحد" وليس هناك استعداد لدى الدول العظمى للتنازل عن صلاحياتها للهيئة الدولية كي تصبح هي الحكم والمرجع! والى الآن، ما زال "تشكيل" مجلس الأمن - وبوجه أعم، نهج عمل الاممالمتحدة - أكثر تعبيراً عن حقائق عالمنا في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، منه تعبيراً عن عالمنا المعاصر حيث أصبح المهزومون عام 1945 هم أكثر دول العالم تألقاً وإنجازاً من الوجهة الاقتصادية، وحيث ولى الى غير رجعة "النظام الدولي" الذي قام في أعقاب الحرب، على "القطبية الثنائية"، لا بسبب سقوط النظام السوفياتي وحسب، بل ايضاً بسبب سقوط نظام اميركي جسدته الادارة السابقة، وصور نفسه في صورة الذي اسفرت الحرب الباردة عن انتصاره في النهاية. اننا في عصر يتسم اذن بالسيولة، وبانعدام المرجعية. وهو عالم قد لا تتخذ فيه الصراعات شكل الحروب الكبرى، بين دول عظمى، ولو لمجرد ان هذه الدول جميعاً تنتسب الى نظام عالمي واحد، هو النظام الرأسمالي، وان هذا النظام تهيمن عليه - في المقام الأول - الشركات العملاقة المتعددة الجنسية، وهي شركات لا تعرف وطناً بعينه، انما هي كيانات تعلو فوق الدول... ومن هنا، تشابكت مصالح الدول العظمى على رغم تباين مصالحها، وأصبح التنافس الاقتصادي البالغ القسوة، لا المواجهات العسكرية، سمة العصر الاكثر بروزاً. ليس معنى ذلك، بالطبع، ان الحروب لم تعد واردة، بل اننا ما زلنا نشهد حرباً - بل وحرباً أهلية - ضارية فيما كان من قبل يوغوسلافيا وما زال العالم يتوجس خطر نشوب حروب، وحروب أهلية، على نحو أو آخر، في أوروبا الشرقية، وبين عدد أو آخر من الجمهوريات السوفياتية السابقة. وليست منطقة الشرق الأوسط - يقينا - في مأمن من حروب في المستقبل. ولكن لم تعد "الحروب الساخنة" هي القاعدة، بل المنافسات والمزاحمات والصراعات الاقتصادية. وقد بدأت تتخذ اشكالاً صارخة... فان هناك الحرب التجارية بين أميركا وأوروبا، وهناك الحروب التجارية داخل اطار المشروع الاندماجي الاوروبي ذاته، ثم هناك التباينات القاسية بين الشمال والجنوب، وهناك، اخيراً، الهموم المشتركة التي يثيرها التلوث البيئي. انها هموم لا حلول لها كما ثبت من مؤتمر ريو، ذلك ان الشمال لا يريد ان يتحمل اعباء تلويث الكوكب، من دون نظر الى حقيقة ان الكوارث التي ستصيب الجنوب لا بد أيضاً ان تشمله على نحو أو آخر. فنحن إذن بصدد وضع دولي يتسم باللاسلم واللاحرب، حالة لا هي السلم والاستقرار، ولا هي الحرب بأكثر اسلحة العصر فتكاً. لن نكون بصدد فترات سلم تتخللها حروب، بل الارجح ان نكون بصدد حالة لن تنعم الشعوب فيها بحالة سلم كامل، ولن تتهددها حالة حرب على نحو يحركها لدرء الخطر، وينبهها الى اتخاذ خطوات حاسمة اقراراً للسلام. فهل الوعي بهذه الحقائق كفيل بمعالجتها؟ اننا بصدد لعبة دولية جديدة، بحاجة الى قواعد جديدة. فهل من سبيل للسيطرة على الموقف، قبل ان يفلت من الجميع؟ * كاتب ومفكر سياسي مصري.