لم يكن فرانسيس فوكوياما هو أول من كتب عن نهاية التاريخ، بل ان هناك من سبقه إلى ذلك بأكثر من خمس عشرة سنة لكن كان لكتاب فوكوياما هذا صدى ثقافي كبير في شتى أنحاء العالم وتُرجم إلى عدة لغات عالمية، ولم يكن ذلك بسبب حداثة الفكرة وجدية الطرح وانما بسبب القوة الإعلامية الكبيرة المسيطرة على العالم والتي روجت لمثل هذه الأفكار التي تصب في الفلسفة الغربية الرأسمالية. لم يكن ذلك الكاتب الذي سبق فوكوياما إلا الاستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري المفكر الإسلامي الكبير الذي يقدم فكرا راقيا ومادة علمية جادة قل ان تجدها بين المفكرين في العالم وليس في العالم الإسلامي فقط حيث أصدر كتاب «نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بيئة الفكر اليهودي» في عام 1973م لكنه قوبل بالصمت وذلك يعود لعدة أسباب يذكرها المسيري نفسه وهي أولا ما يتعلق بالعقدة تجاه الغرب، إذ ان فوكوياما يكتب باللغة الانجليزية وينتمي إلى نفس العالم الغربي ويروج أفكاراً غربية تخدم الاثنين معا لهذا السبب تجد المتلقي الضعيف عادة يقبل كل ما يأتي من الغرب على أنه حقيقة لا تقبل النقاش. ثانيا التصنيف الذي فرّق بين الكتابين وتبناه الاعلام الغربي كان يعتمد على أساس الموضوع الذي تداول فيه المسيري الفكر الصهيوني بينما كان عند فوكوياما الرؤية الشاملة والتطور التاريخي للعالم بشكل كامل. وهذه الرؤية لكتاب المسيري قاصرة وتفتقد إلى الموضوعية لأن القراءة الموضوعية من وجهة نظر فلسفية لكتاب المسيري تبين انه يقدم رؤية شاملة وكلية تهم العالم اجمع. الأفكار والرؤى التي يقدمها المسيري في كتابه آنف الذكر تختلف تماما مع ما يقدمه فوكوياما رغم تشابه موضوعهما إذ ان هذا الأخير يرى ان الديموقراطية الليبرالية تمثل نقطة النهاية في التطور الايديولوجي للإنسانية والصورة النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي فهي تمثل الإنسان الأخير أي بعبارة أخرى يقول بانتصار الفلسفة الليبرالية الديموقراطية المنتشرة في الغرب، بينما يرى المسيري عكس ذلك فهو يرى ان نهاية التاريخ هي نهاية الظاهرة الإنسانية التي تعني هزيمة الإنسان نفسه وليس انتصاره. يرى المسيري عدم صلاحية الليبرالية الغربية كفلسفة يجب ان تطبقها المجتمعات لأنها فلسفة داروينية معادية لله ، ثم للإنسان والطبيعة، ويعتقد في الوقت نفسه بوجود فلسفة اسلامية أقوى من ذلك بكثير ومنفصلة عن الاستهلاك المادي ومنفصلة عن تصاعد معدلات التقدم كما هي مطروحة في الحداثة الغربية. إذن، لم يكن طرح فكرة نهاية التاريخ بجديد على الساحة الفكرية العالمية إذ ان فوكوياما نفسه أصابته الدهشة عندما علم بكتاب المسيري عن نهاية التاريخ وطلب مقابلته شخصيا والمثير للتساؤل أيضا هو ان بعض المفكرين الذين ناقشوا كتاب فوكوياما وكانوا يعرفون كتاب المسيري لم يتجرؤوا على ذكر ذلك في مناقشاتهم ولعل ذلك يعود إلى نفس الأسباب التي ذكرها المسيري نفسه والمتمثلة بما يعرف بعقدة الغرب والموضوع الذي كان يتناول الفكر اليهودي. كل المؤشرات والأحداث التي تعج بها الساحة العالمية الآن وما يحدث في فلسطينالمحتلة تحت أعين الديموقراطية الغربية والتي يدعي فوكوياما انها ارقى ما وصلت إليه البشرية من قيم نبيلة وعادلة، كل ذلك يشير إلى بطلان ادعاء فوكوياما وانهيار نظريته لأن هذه الفلسفة هي أبعد ما تكون عن العدل والمساواة وبالتالي نهاية هذه الفلسفة وموتها كما ماتت قبل ذلك الفلسفة الماركسية والفاشية. أحد مشاريع المسيري الفكرية القادمة بعد مشروعه الضخم والكبير والمهم في مثل هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها العالم الإسلامي وأعني بذلك موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية والذي يقع في ثمانية مجلدات، هي ما يسميه المسيري نفسه بحداثة اسلامية، أي تقديم صورة جديدة مبنية على توازن الإنسان مع نفسه ومع الكون خارجه مستمدة من الروح الإسلامية وبعيدة عن الثقافة الاستهلاكية المادية التي يعتمد عليها الفكر الغربي الحديث. ندعو الله ان يطيل في عمر الدكتور عبدالوهاب المسيري ويشفيه من معاناته المرضية لكي يقدم هذه الدراسة إلى العالم المتشوق إلى مثل هذه الأفكار الراقية المستمدة من الفلسفة الإسلامية الخالدة.