إن كان لتيار الحداثة في الداخل السعودي – عند ظهوره في ثمانينات القرن الميلادي المنصرم - أن يدين لأحد في وجوديته الأدبية في الساحة الثقافية السعودية، فإن ذلك للتيار الصحوي ولرموز التيار الأدبي الإسلامي المحافظ فهما من جملة آخرين ناصبوه العداء، وسعوا لمحاربته بشتى السبل فضمن حينها حضوريته وأصّل لمكانته الأدبية المعاشة. وللحق؛ فالعديد ممن جرب كتابة قصيدة النثر والتفعيلة من أدبائنا بعد مطالعتهم للنتاج الشعري لمن سبقنا من أدباء دول الجوار العربي، لم يتقنوا هذه الصنعة الأدبية الوافدة، ماعدا القليل من شعرائنا الذين فقهوا ذلك الضرب من الشعر المُحْدَث وقبل ذلك امتلكوا الموهبة الشعرية الكفيلة بتحقيق هذه المعادلة. ولذا فقد كان العديد من الأدباء أو فلنقل المثقفين قد تشكل لديهم وهم خاطئ مفاده: «كي تكون للقصيدة طابعها الحداثي فينبغي أن تحوي ولو القليل من «التجديف»، بل أكثر من ذلك؛ فقد أدى الغموض القصدي الذي أوغل فيه البعض عند كتابة نصوصهم الشعرية، لتكريس فهم خاطئ لدى التيارات الاجتماعية والأدبية الأخرى، بأن الحداثة تشكل خطرًا على اللغة العربية والأدب العربي والإسلامي منه على وجه الخصوص، في حين رأى فيها التيار الصحوي، الوجه الآخر للكفر والإلحاد. وما تلك الصراعات والمعارك الأدبية التي طالعناها حينذاك على متن الصحافة الورقية إلا خير دليل على ذلك. وما كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام، نظرات إسلامية في أدب الحداثة»، الذي كان يطمح مؤلفه لتقديم قراءة نقدية لتجربة الحداثة من منطلق إسلامي، إلا وجه آخر في سياق الجدل السعودي الداخلي حول تجربة الحداثة، فقد فشل مؤلفه في سعيه النقدي، ليأتي الكتاب ليشكل التجسيدية الدقيقة لنظرة التيار الصحوي لتيار الحداثة الوليد آنذاك، بأنه يتقاطع مع أصول الدين. ومن هنا فقد نشطت عمليات توليد إسقاطات سلبية حتى على قصائد أولئك الشعراء الذين أتقنوا الكتابة الشعرية في قوالبها الحداثية الوليدة، ومنهم الشاعر السعودي الكبير الراحل محمد الثبيتي. ولعله لايزال عالقا بذاكرتنا الجمعية، إنه عندما ورد في قصيدته الشهيرة «تغريبة القوافل والمطر»، لفظة «كاهن»، وأعني بذلك قول الثبيتي: يا كاهنَ الحيِّ هَلاَّ مَخَرْتَ لنا الليلَ في طُورِ سِيناءَ هلاَّ ضَربتَ لنا موعداً في الجزيرةْ أيا كاهنَ الحيِّ هَلْ في كتابِكَ مِن نَبإ القومِ إذْ عَطَّلُوا البيدَ واتَّبَعُوا نَجمةَ الصُّبحِ مَرُّوا خفافاً على الرملِ يَنْتَعِلُونَ الوجَى فقد سارع بعض رموز التيار الصحوي لاتهام محمد الثبيتي رحمة الله عليه. وفي تقديري، بأن الأمر في جله قد كان صراعًا على اقتطاع النصيب الأوفر من الكعكة، فالتيار الصحوي كان متسيدًا على الساحة الاجتماعية، في حين كان أنصار مايسمى بالأدب الإسلامي من المحافظين الأدبيين الجدد آنذاك، يبسطون سيطرتهم شبه الكاملة على مقاليد الصنعة الأدبية في المشهد الثقافي السعودي، وكلا التيارين يعيش في موادعة مع الآخر، وبينهما مشتركات تعزز من بقاء هذه الموادعة، ولذا فقد كان وجود تيار وافد غريب يحظى بالقبول والمتابعة من الشبيبة السعودية آنذاك، يمثل تهديدًا وجوديًا لابد من وأده في مهده. ** **