{ وصف الناقد حسن مشهور ما ينشر من دراسات نقدية وأدبية سعودية ب«الإنطباعية لا يعتد بها علمياً». وقال مشهور في حوار مع «الحياة» إن الغذامي تحوَّل 180 درجة، مشيراً إلى استحالة تجاوز مرحلة الثبيتي، وأن الشاعرين علي الدميني وعبدالله الصيخان يحاكيان تجربة الثبيتي. وأوضح مشهور أن الصراع الصحوي - الحداثي لا يزال قائماً... إلى نص الحوار الثبيتي بحسب كتابك «متتالية التجديد»، شاهد على مرحلة مهمة من تطور المجتمع السعودي وتحولاته، كيف يمكن للشعر أن يعكس التحولات المجتمعية؟ - نعي جيداً أن الشعر باعتباره أحد الفنون المعبرة عن ثقافة أي أمة، فإنه يشكل أيقونة التعبير عن جملة التفاعلات السوسيولوجية التي تمور في ثنايا التشكيل الطبقي للمجتمع. فهو لسان الأمة والمعبّر عن آلامها وتفاعلاتها. كي أعطيك أمثلة أكثر دقة وتوصيفاً لما ذكرت آنفاً، فلتعودي بالذاكرة لقصيدة النسر للراحل عمر أبوريشة، التي تمثل رمزية تعبيرية عن حال الأمة الإسلامية، وتحولها لحالة الضعف والانكسار بعد حالة الرفعة والازدهار. هناك مثال آخر يتموضع في قصيدة أنشودة المطر للشاعر العراقي الرمز بدر شاكر السياب. إذ إن القصيدة بمجملها تمثل بكائية على الحالة العراقية التي تلبسها الخوف والقتل والتشريد عقب حركة 14 تموز. والأمثلة عدة التي تعزز مقاربتي التي أرى فيها أن الشاعر الحقيقي والصادق هو لسان الأمة المعبر عن آلامها وتفاعلات المجتمع الذي ينتظم في عقده الاجتماعي. لماذا اخترت قصيدة «الأسئلة»، لماذا لم تختر ديواناً أو مجموعة من النصوص؟ - «الأسئلة» كتعبيرية نصية قد تمت دراستها في كتابي المعنون ب«متتالية التجديد» بشكل منفصل، لكونها تعبر بعمق وبشكل صادق عن مرحلة تاريخية معينة من تاريخ المجتمع السعودي، وتحديداً تلك الفترة الممتدة بين عامي (1978-2001). إذ إن هذه الفترة الزمنية تمثل تشكل حالة الثيولوجيا الدينية التي جنحت لاحقاً للتطرف الديني، وأطلق عليها لأهداف محددة لها دلالتها الخطيرة مسمى مرحلة الصحوة... وهذه الصراعات والخلافات ذات البعد العقدي والثقافي قد حوتها في تقديري قصيدة «الأسئلة» وعبرت عنها خير تعبير. وتعد هذه الأسباب من ضمن أسباب عدة دعتني لدراسة قصيدة «الأسئلة» بشكل منفصل عن بقية قصائد الثبيتي أو عن مجمل دواوينه مجتمعة. وإن كنت أيضاً قد أجريت دراستين أخريين على قصيدتين للثبيتي، وضمنتهما متتالية التجديد كذلك. هما نص «تغريبة القوافل والمطر» وقصيدة «الصعلوك». الصحوة والصراع مرحلتا الصحوة والحداثة كانت لهما الغلبة من خلال السجال والتصفيات الفكرية، هل ترى أن هذه المرحلة لا تزال ترمي بثقلها على الحاضر؟ - ربما يكون إعلامياً أن وتيرة الصراع بين كلا التيارين الصحوي والحداثي قد خفتت في شكلانيتها المعهودة والمعروفة، لكنها في الواقع قد غيرت لبوسها فقط، فالتياران لا يزالان يتصارعان وفي حالة تصادم، وكلاهما يبذل محاولات مستميتة للتسيد، بل وليس خافياً أن أقول إن هناك تكالباً عنيفاً من كل تيار للاستيلاء على مساحات كبيرة من الوجودية الفكرية السعودية، ومن ثم استقطاب العدد الأكبر من المكون البشري للمجتمع السعودي، وفي تقديري أن هذا الصراع سيبقى ظاهرة صحية مجتمعية طالما لم يصل لمرحلة التصعيد المتمثل في التكفير أو التخوين أو الإقصاء. عبرت عن صدمتك بسبب القصور الذي تتعرض له تجربة الثبيتي من رموز النقد في السعودية، إلى ماذا ترد هذا القصور.. إلى الكسل أم إلى مشاغل نقدية أخرى؟ - مرد صدمتي أن أمم العالم لا تزال تحتفي بمبدعيها الاستثنائيين، كون ذلك الأمر يقدمها للآخر باعتبارها مجتمعات حضارية واعية ذات إرث إنساني راقٍ وعميقة الجذور. فالإنكليز لا يزالون يحتفون بكلوريدج وييتس، والفرنسيون كذلك بالامرتين، والألمان بشيلر، والعديد من شعوب العالم تحذو حذوهم، فكيف لا نحتفي نحن بمبدعينا ونسعى لترميزهم، وهم في الواقع أصحاب تجارب ثقافية استثنائية لها قيمتها الفنية. أما تحديد الأسباب بشكل دقيق فلكوني في مجال البحث والدراسة أعتدت ألا آخذ إلا بالحقائق العلمية والأرقام. لذا فأنا أرى أن الأمر يحتاج إلى دراسة اجتماعية ثقافية محكمة تسقط على المثقف السعودي لاستكشاف كنه تلك الأسباب. توصيف حالة مجتمعية في شقها الثقافي، أحد أهداف كتابك، ما التحديات التي واجهتك، وهل كان من السهل توصيف هذه الحالة؟ - في البدء علينا أن نعي شيئاً، وهو أن الكتاب كما دوِّن على الغلاف الخارجي الذي حمل العنوان، هو عبارة عن دراسة سوسيولوجية، أي دراسة اجتماعية للداخل السعودي في مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ هذه الدولة المجيدة، لكنها تختلف عن الدراسات الاجتماعية التقليدية بكونها قد أخذت الثقافة الأدبية ممثلة في شعر محمد الثبيتي مدخلاً لتفكيك المكون البنيوي الثقافي الفكري السلوكي للمجتمع السعودي في عقد الثمانينات. أي هي دراسة تمثل ثنائية مجتمعية أدبية، تمكننا من الولوج لفكر المواطن السعودي في عقد الثمانينات الماضي كما أسلفت. وبالنسبة إلى الصعوبات فيكفي أن تعلمي أن الكتاب استغرقني قرابة الثلاثة أعوام لكي أتمكن من الانتهاء منه. كما أني في العام 1988 كنت أدرس في قسم اللغة الإنكليزية، الذي كان قسماً وليداً في تلك المرحلة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي كان غالبية المنضوين تحت لوائها ومن درس بها أو تخرج فيها يمثلون الرموز الحقيقيين للصحوة. ولذا فقد عشت وأنا أرى وأرصد المتغيرات الاجتماعية المتسارعة التي شهدتها تلك المرحلة. ولا أخفيك سراً بأني اضطررت أن أحذف فصلين كاملين كي أتمكن من إجازة نشره. إذ لا تزال ظلال تلك المرحلة حاضرة مرحلياً ولها ثقلها النوعي والمؤثر على سيرورة الكثير من الأمور والإجراءات المجتمعية، وإن ارتدت وقتياً تقنية القناع وأظهرت الانفتاح وتقبل نقدها والمراجعات الفكرية بحقها. اخترت «التشريحية» منهجاً نقدياً لمقاربة شعر الثبيتي، هناك من يظن أن مثل هذا المنهج اندثر، أو لم يعد يصلح لمقاربة تجربة حداثية كتجربة الثبيتي.. ما رأيك؟ - على العكس من ذلك. فنحن نعي أن النقد التطبيقي بدأ وفق منهجين رئيسيين هما المنهج التاريخي والآخر هو المنهح النفسي، الذي استخدمه الراحل أديبنا العقاد في دراسته التي أسقطها على شعر أبي نواس. المناهج النقدية الحديثة ممثلة بالمنهج البنيوي الذي يمثل مرحلة الحداثة، وتعتبر السيميائية هي واسطة العقد منه. والمنهج الآخر هو التشريحية، الذي يعتبر انعكاساً لمرحلة ما بعد الحداثة، هما منهجان نقديان من الصعوبة بمكان إسقاطهما على نص شعري إن لم يكن الدارس لديه فهم حقيقي لهما، ويمتلك القدرة على استخدام أدواتهما جيداً. ودعيني أعطيك سراً، فإن دراسة حديثة انتهيت منها وبنيت على تحليل عشرات الدراسات والبحوث النقدية التي صدرت على امتداد عقدين، وخرجت منها بنتيجة مفادها أن ما نسبته 98 في المئة من مجمل ما ينشر من الدراسات النقدية الأدبية السعودية هي عبارة عن قراءات «انطباعية» لا يعتد بها علمياً. أي إنها فقط تعكس انطباع ورؤية الناقد الذاتية عن العمل، وليست دراسات أدبية منهجية ذات بعد علمي حقيقي وراسخ. مرحلة الثبيتي هل تعتقد أن الشعر السعودي تجاوز تجربة الثبيتي، أم لا تزال هذه التجربة راسخة ولا تخلو بعد من المفاجآت؟ - الشعر السعودي في اعتقادي لا يزال يراوح مكانه، ولم يتجاوز بعد المرحلة الشعرية الثبيتية إن صح التعبير. فلو أخذنا مثلا الشاعرين علي الدميني وعبدالله الصيخان، وهما قد كانا من مجايليه ويتشاركان الفترة الزمنية التي عاش فيها وكتب فيها الثبيتي أعماله الشعرية، وأمعنا النظر بشكل عميق ودقيق في تجربتهما الشعرية، فسنجد أننا أمام صور تجريدية تحاول أن تقارب أو لنقل تعمل على محاكاة تجربة الثبيتي، حتى وإن كانت تبدو للقارئ الافتراضي أنها مختلفة قليلاً، فكيف إذا بمن تلاه زمنياً أو أتى بعده مرحلياً؟ في رأيك لماذا صمت بعض الشعراء الذين جايلوا الثبيتي؟ - هؤلاء الشعراء كانت تجربة الثبيتي أعمق منهم وأكثر فهماً للمتغير الواقعي للمجتمع السعودي. فقد كان شعراً انبنى على مقاربة تدعى «التجربة الشعرية»، التي جعلها أرسطو في كتابه الشهير «فن الشعر»، شرطاً أساسياً لإنجاح أي عمل أدبي. لذا فالثبيتي كان يمتلك الصدق، وهو المفتاح الرئيسي لأبواب النجاحات التعبيرية. بعض مجايليه غالبيتهم كانوا يفتقرون إلى رؤية مثل هذه، لذا وجدوا أنفسهم لاحقاً مضطرين للجنوح إلى الاستكانة والصمت، ومنهم من لم يرغب في أن يناطح التيارين الصحوي والمحافظ، حتى لا يتهم ويشنع عليه كما جرى للثبيتي وكذلك للسريحي والغذامي، وإن كان الأخير تحوّل 180 درجة منذ بضع سنوات، وتحديداً بعد إلغاء إحدى ندواته التي كان من المزمع إقامتها على مسرح جامعة الإمام، فوجدناه فجأة يكفر بالليبرالية وهي الوجه الآخر للحداثة لدينا كما أسلفت ويشنع عليها. وقد كتبت مقالة عن ذلك حملت عنوان «السريحي والغذامي ديلما الثبات والتحول»، نشرت في صحيفة «الشرق» السعودية. وكتب عليها رداً ناقداً الزميل الكاتب الساخر محمد السحيمي في الزميلة صحيفة «مكة».