في قاموس المعاني الحضارة: التمدن؛ عكس البداوة؛ وهي مرحلة سابقة من مراحل التطور الإنساني. القاموس هنا لا يعطيك تعريفاً؛ ولا توصيفاً شافياً؛ بل بعض المؤشرات الدالة؛ التي قد لا توصلك إلى معنى محدد. بيد أن كلمة «حضارة»؛ والبناء الحضاري؛ والسلوك الحضاري؛ والنمو الحضاري؛ والمجتمع الحضاري ... إلخ يجري استخدامها يومياً في الأدب والفن والصحافة والإعلام وغيرها دون محددات! فهل يجوز استخدام هذه المعاني على مبدأ «المعنى في قلب الشاعر»؟ وهل يساعدنا «قاموس المعاني الجامع» للتعرّف على معناها؟ القاموس يشير إلى المعنى ولا يحدده! أما علم الاجتماع «السوسيولوجي» وعلم الآثار «الأركيولوجي» فقد قسما مراحل ما قبل التاريخ إلى عصور ما قبل الحضارة وعصور ما بعد الحضارة على أساس قاطع؛ وهو: عصور ما قبل الحضارة اعتمد فيها البشر على ما تجود به الطبيعة من صيد وثمار، أما الحضارة بدأت عندما بدأ البشر «بصناعة» غذائهم بأنفسهم، أي بالزراعة وتدجين الحيوانات! ولم يكن ذلك التحول اختياراً من فيلسوف، بل كان ضرورة بعدما بلغت أعداد البشر كماً لا يتناسب مع المتاح من الصيد والثمار البرية. وبات ذلك التحول إنقاذاً للبشر من الهلاك. إذن مفهوم «الحضارة» الأول هو التحول من «الالتقاط» إلى «العمل»! فهل بقي المفهوم كما هو منذ تسعة آلاف سنة قبل الميلاد حتى بومنا هذا؟ ... بالطبع لا؛ فلا يوجد «ثابت» مع التطور؛ فقد تطلب «العمل الجماعي» تنظيماً؛ والتنظيم يتطلب إعادة تشكيل «الجماعة» إلى «مجتمع»؛ والمجتمع يتطلب تشكيلاً هرمياً؛ والتشكيل الهرمي يتطلب «قانون» وحرس لتطبيقه. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحضارة لم تنبثق في كل بقاع الأرض دفعة واحدة، فالمناطق المزروعة والحيوانات المدجنة تتطلب حماية من الجماعات التي لم «تتحضر» بعد؛ أي إنشاء «جيش»! كل ذلك ارتبط واندمج بمفهوم الحضارة. ولكن أساس المفهوم بقي واحداً؛ هو: «كل قول أو فعل أو كليهما؛ فردياً كان أم جماعياً؛ يؤدي إلى خدمة المجتمع وتطوره»! أي أن تراكم تجربة الحضارات التي سادت ثم بادت؛ وكذلك تجربة الحضارات التي لم تمت بعد؛ يضاف كله إلى مفهوم الحضارة. ولذلك تكون الأقوال البذيئة والأفعال الشائنة بحق المرأة والرجل والطفل، وكذلك الجنايات والجرائم والخيانة والظلم وما شابه، أي كل ما يعيق اللحمة والتطور المجتمعي هو فعل غير حضاري. ** **