يعتبر هبرماس احد اهم الفلاسفة الألمان النقديين المعاصرين ان لم يكن الفيلسوف الوحيد الذي بقي حياً بعد وفاة ميشال فوكو، الذي ارسى دعائم بناء فكري رصين وتيار نقدي منفرد قاده الى مرحلة متقدمة من الشمول والانفتاح على العلوم الاجتماعية الاخرى. وفي احدث كتاب له الموسوم "احتواء الآخر - دراسات في النظرية السياسية" "سوركمب، فرانكفورت، 1997، 404 صفحات يعالج هبرماس اشكالية الحادثة وما بعد الحداثة بهدف اعادة تشييد الواقع الاجتماعي الذي يربطه بنظريته في "السلوك الاتصالي" وبامكانية التوصل الى نظام "عالمي" من الممكن ان يكون سلمياً، منطلقاً من فرضية اساسية من المفروض ان توفر عوامل عديدة ومن داخل مجتمع "ما بعد الحداثة" تجعله في وضع يصعب معه التصرف بعدوانية، وبخاصة في المجال الخارجي، وذلك عن طريق تأسيس عقلانية جديدة ينبغي ان تراجع نفسها عبر التعلم من الثقافات الاخرى وعبر التفاهم والحوار المفتوح معها لتتجاوز ما نكص عن تحقيقه عصر التنوير وعقلانيته، وان تستخدم امكاناتها في النقد والنقد الذاتي، في عصر بدأت فيه الشكوك تتسرب حول جدوى الحداثة وعقلانيتها وبروز تيار "ما بعد الحداثة". يحتوي الكتاب على مقدمة وخمسة فصول وملحق ويتضمن دراسات وبحوثاً وتعليقات حول السجال الذي دار في ندوة "واقع ومستقبل الدولة القومية"، التي اقامتها مدرسة "كاردوزو" للقانون في جامعة نيويورك في ايلول سبتمبر 1992، حيث قدم هبرماس دراسة عن "المجتمع المتعدد الحضارات"، الذي من الممكن ان يزيد ويعمق الصراعات الثقافية في مجتمع "ما بعد الحداثة" وبين مواطني "المجتمع العالمي" الذي يعمل على احتواء الآخر بصورة لاارادية. ففي خضم التحولات السريعة التي تشغل بال العالم اليوم، التي ارتبطت بالتطور العلمي والتقني والتقدم المتسارع في وسائل الاتصال الالكترونية، وكذلك في سيرورة التطور المذهل على صعيد الدولة - الأمة، يحاول هبرماس تقديم مرافعة للدفاع عن العقلانية وفلسفتها الاخلاقية التي لم تخدم الفرد فحسب، بل استمرت في دفاعها عن المسؤولية التضامنية بين الافراد والجماعات. ان الارتياب من عصر "ما بعد الحداثة" يشكل عند هبرماس خوفاً مزدوجاً، اولاً من اندماج عالمي التنظيم لا يراعي المساواة بين البشر، وثانياً من اساءة فهم معنى "الاختلاف"، وفي ذات الوقت، اخفاء البنية العلائقية مع الآخر وكذلك الاختلاف معه، ويعمل على تسويف اعادة الاعتبار للحرية بمعناها العام. في نظريته حول "السلوك الاتصالي" صاغ هبرماس مفاهيم اساسية وبلور رؤية سوسيولوجية ليست ذات بعد واحد للعلاقات الاتصالية التي تقوم في الحياة اليومية، تلك العلاقات الاجتماعية التي لا تفجر علاقات ايجابية وحسب، بل وتربط بين مفهومي الجماعة Gemeimschaft والمجتمع Gesellschaft، والتي تتعارض، في ذات الوقت، مع النظرية الاجتماعية التقليدية ومع نظرية "عولمة الحق والأخلاق" التي تنظر الى "الاختلاف" بحساسية شديدة، لأن الاحترام المتبادل بين شخص وآخر لا يعني دوماً وبالضرورة التشابه معه وانما احتواء شخصيته او احتواء الآخر في اختلافه. كما ان ضمان تكافؤ الفرص امام الآخر "كواحد منا" يرتبط من جهة، بمرونة "النحن" لأية جماعة وبامكانية تجاوز اية كراهية وحساسية من جهة اخرى، وكذلك الغاء الثغرات التي من الممكن ان تحدث في حدود كل جماعة. كما ان تماسك اية وحدة لأية جماعة انما يتم عبر التفكير السلبي الذي يعمل على هدم التمايز والتمييز، ومراعاة التفاهم والحوار. ان بناء "الجماعة المصمم" هو ليس بناء جماعياً دائماً، لأن المساواة بين افرادها هي خصوصية ايجابية وضرورية. كما ان احتواء الآخر ينبغي ان لا يكون هنا تطويقاً او غلقاً للأبواب، فمن المفروض ان تبقى الحدود والامكانيات بين الجماعات مفتوحة امام الجميع دائماً، وبالذات امام اولئك الذين يعتبرون انفسهم غرباء عن الآخرين وكذلك اولئك الذين يريدون ان يبقوا غرباء. وفي رده على خطاب جون راولز، رئيس تحرير دورية "الفلسفة" الذي دعاه الى نيويورك للمشاركة في ندوة "مستقبل الدولة القومية"، طرح هبرماس وجهة نظر مفارقة "للخطاب النظري" تتعارض مع "الافتراضات الاخلاقية" التي تناولها راولز في خطابه، وفي ذات الوقت، قدم اضافات نقدية من الممكن ان تقدم خدمات افضل لهذا الخطاب النظري وتوضيح الاهداف والاختلافات فيه، وبخاصة بين مفهوم السياسة الليبرالية وبين مفهوم "الجمهورية" ل"كانت"، كما طرحه هبرماس. وفي بحثه حول "مستقبل الدولة القومية" شدد هبرماس على الجذور الثقافية لمفهوم القومية "الرومنتيكي" باعتباره قدراً جمعياً ادعى لنفسه وجوداً دولياً خاصاً تغذى على وجهات نظر وقناعات ودعاوى وحقوق وهمية لتقرير وجوده القومي، كما ناقش الأساليب الدفاعية التي تستخدمها التعددية الحضارية في ادعائها الدفاع عن حقوق الانسان وتطبيق حق الشعوب في الاستقلال الذاتي في مرحلة ما بعد الدولة القومية. ان المدافعين عن "القوميات الشعبية" كما يقول هبرماس، يتجاهلون، ان التقدم الذي وصلنا اليه اليوم في ظل الديموقراطية والدولة القومية ودستورها الجمهوري، يعلمنا كيف ينبغي ان نتعامل مع المشاكل المعاصرة والتحولات البنيوية المستجدة التي تقودنا الى تشكيلات مجتمعية لما بعد الدولة القومية. كما تقوده قضايا حقوق الانسان وتطبيقاتها العملية على المستوى المحلي والعالمي الى مقولة عمانوئيل كانت حول "السلام الأبدي" و"ازلية الحرية"، التي تقدم لنا احد الأسباب المباشرة لإعادة النظر في مفهوم "كانت" حول "المواطنة العالمية" في ضوء تجربتنا التاريخية، فطالما تم التلاعب بحقوق "الشعوب البريئة" التي لم يسمح لها اليوم، في ظل النظام الدولي الجديد بالتدخل في شؤونها الداخلية. ولهذا تتطلب التعددية الحضارية مرآة تعكس ما تحتاج اليه الأقليات القومية لحماية نفسها من حكوماتها ذاتها، ولا يمكن تحقيق ذلك الا في اطار دولة القانون الشرعية التي تندمج فيها الأقليات في حضارة الاكثرية، مثلما اشار الى ذلك جارلس تايلر. كما ان سياسة الاعتراف بالآخر كفيلة بتأمين التعايش والوفاق المتكافئ بين مختلف الحضارات. ان الخطاب الذي يرتبط بالديموقراطية وحقوق الانسان ودولة القانون من جهة، والخطاب الذي يرتبط بالسياسات العنصرية للدول القومية من جهة اخرى، يذكرنا، كما يقول هبرماس، بضرورة اعادة النظر في "الخطاب النظري". * كاتب عراقي مقيم في لندن.