خلال العقدين الماضيين من ألفيتنا الثالثة المعيشة هذه، قد وطن في العقل الفاعل للكثير من مثقفي الداخل السعودي، بأن الشعر لم يعد ديوان العرب، في ظل الحضور المتصاعد للرواية وتوجه الشعراء وحتى النقاد لامتهان الكتابة الروائية، الأمر الذي أدى لتصاعد مؤشر النتاج الروائي لدينا بشكل مهول، بحيث لم نعد قادرين على مواكبة حالة التسارع في التأليف والنشر من قبل أفراد يمتلكون المال - ربما - أكثر من الموهبة وهو ما ولد حالة من التيه لدى أغلب نقادنا ومثقفينا الحقيقيين السعوديين بحيث لم يعودوا قادرين على إيجاد أو فلنقل التفرقة بين الغث والسمين. فالعديد من شبابنا من الجنسين يكتب الرواية، والعديد منا كذلك يتجه لدور النشر ليطبعها على نفقته الخاصة، والعديد منا أيضًا يرسل نسخةً من روايته مصحوبة بوريقة هي أقرب للتوسل منها للدعوة لبعض النقاد للكتابة عن عمله الأدبي الروائي النوعي كما وطن في قرارة نفسه. المفارقة الباعثة على السخرية أن هذه الروايات المراهقة في حبكتها، وشبه الهشة في مبناها ومتنها الحكائي، والتي تعايش اهتزازًا في زمنها السردي؛ تلقى قبولاً من لدن العديد ممن يدعون أنفسهم بالأدباء والأديبات، وليس أدل على ذلك من لقاء جمعني مع أحد أصحاب دور النشر الرائدة والشهيرة قبل ثلاثة أعوام في معرض الرياض الدولي للكتاب، حيث حدثني حينها عن حجم المبيعات الهائل الذي يتم تحقيقه من بيع الروايات وبأن جلَّ المشترين من الشباب وصغار السن، في حين أن مبيعات الشعر وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى في انحسار. هذا القول، حقيقةً قد أدار رأسي، وأشعرني بأننا ربما نواجه أزمةً ثقافية لم نفقه لوجوديتها المرحلية إلى حينه. ومن يدري، فربما يكون الأمر على النقيض، فنكون نحن من نعاني من أزمة فكرية جعلتنا نعيش في أبراج عالية تفصلنا عن جيل الشباب، وتحول دون أن نفقه بأن هناك حالة من التحول الثقافي قد طالت الساحة الأدبية السعودية. مرحليًا ومع تفشي جائحة فايروس كوفيد 19، فقد تصاعدت أصوات تبشر بأنه سيكون لدينا أدب عزلة يتسم بالنوعية والفرادة. لكن مما رصدت أنا وغيري من المهتمين بالتطورية التاريخية للأدب السعودي؛ فأن هناك حالة من التراجع أو فلنكن منصفين ونقول حالة من الانتكاسة في الكتابة الروائية وغيرها من صنوف الأدب الأخرى، جراء حالة العزلة الماضية وما تبعها من حتمية تباعدية لتقليص عدد الإصابة بهذا الفايروس المستجد، الأمر الذي ولد شعور بالكآبة المؤقتة حال دول حضور الإلهام الكتابي والتأليفي في الذهنية الثقافية السعودية، مما قلص عدد النتاجات الأدبية، إلى جانب إفلاس والإغلاق المؤقت لبعض دور النشر العربية التي كانت تقتات على النتاج الروائي المهول لكتابنا شبه الموهوبين. وهذا الأمر لعمري مما يبهج ، فكفانا أن تصدع رؤوسنا ليل نهار وأن تشغل أعيننا على مدار الأسبوع بتلك المطالعات الإعلامية التي تتحدث عن رواية فلان النوعية، ورواية فلانة الإبداعية، في حين إن الواقع على النقيض، فحمدًا لله أن كان لدينا عزلةٌ بلا أدب. ** **