لا يصمد المثقف العربي طويلاً إزاء مواقفه، ولا يشعر بأي اعتداد في نفسه. لا يمكن القول إن للأمر علاقة بالجينات العربية، لأنه ليس كذلك، بل هو مرتبط بنكسة قديمة في التاريخ، التاريخ الذي لا يُستهان به وإن كان من الماضي، التاريخ الذي يعود باستمرار، فقد ترك ذلك «التاريخ» ضعفًا واضحًا في (الوازع النفسي) -إن صح لي قول ذلك- وهو ما أوجد لكل مثقف عربي ذريعة كبرى لاختلاق الرمز. الرمز الذي غالبًا ما يكون من طرف العالم «الآخر»، ثم ممارسة التبعية الثقافية العمياء، حيث يرزح العربي منذ زمن بعيد تحت اضطهاد «الفكرة الراسخة» في أعماقه، بأنه ابن العالم النامي، العالم الثالث. أما الآخر، ذلك الآخر الحاضر ذهنيًا دائمًا، بصفته «المتقدم»، المتقدم دومًا في مقابل العربي المتأخر، المتعلم، في مقابل العربي الجاهل، الواعي بنفسه وتاريخه، في مقابل «اللاشيء» من الإرث والحضارة، الحاضر بقداسة في كل اقتباساتنا، حد السذاجة، في مقابل تغييب تام واحتقار للعربي، العربي الذي يجلد نفسه باحتقار آدابه وإرثه الأدبي والثقافي ومقدرته على التفوق، العربي المُغيب في ذاتيته المرتبكة، القلِقة، المترددة إزاء كل ما هو عربي. المثقف العربي مأزوم بوضعه المتأخر، مأزوم بهزائمه التي جر أذيالها على مجال الثقافة. وقد صار جليًا أن تعريب ما هو غربي وتنميط النتاج والواقع العربي به هو السمة المقبولة لدى أولئك المثقفين، فما يحدث الآن، ليس مقاربة للنظريات أو الأطروحات أو الأدبيات، بل هو تقليد أعمى، يبخس العروبة حقها من الفكر، ويثير الشك حول أصالة أي فكرة أو نظرية أو تجديد، ويصبغ الوعي العربي بثقافة الآخر وهويته، بواقعه، بدلالاته، بتاريخه، بطريقة تفكيره، بهزائمه وانتصاراته، حتى صرنا استنساخًا غربيًا مشوهًا، وجودنا مرتبط بكيانه، ونفكر من خلاله، وكأننا بلا تاريخ، بلا حضارة، بلا إرث، بلا عقل يعي هذه الذات المتراجعة في داخلنا، المتقوقعة على أصواتنا دون أدنى مقاومة. في عام 2002 م أقيمت محاضرة في الجامعة عن «التغير الاجتماعي» بحسب ما أذكر، وقد كان المحاضر قادمًا من جامعة أخرى. توافدنا أفواجًا وجماعات على هذه المحاضرة التي طلب منا أستاذ إحدى المواد أن نقدم تلخيصًا لها لنحصل على بضع درجات في آخر السنة ضمن التقييم العام. بدأت المحاضرة، ولم يكن ثمة ما يشبه واقعنا، فالأمثلة والدلالات والسياق كله بنظرياته ودراساته واستشهاد المُحاضر كان مبنيًا على دراسات غربية، حول طبيعة التغيرات الاجتماعية التي تحدث على حياة الإنسان الآخذ في التطور. بطريقة ما حاولت أن أقاوم، حاولت أن أحدد عروبتي، فسألت سؤالًا واحدًا هو: «علماء الاجتماع الغربيين يقولون كذا وكذا، ولكن، أين نحن على هذه الخارطة؟ أين نظرياتنا؟ أين دراساتنا؟ أين أولئك الأكاديميون وأين أبحاثهم؟ لماذا لا نراجعها على أرض الواقع؟». وبالطبع راح يستشهد المُحاضر بدراسات وآراء ابن خلدون وغيره من العرب، مبررًا عدم ذكرهم بالتطوير الذي أحدثه الغرب على دراساتهم الأولية. أنا لست ضد المقاربة مع الغرب التقدمي، لا، ولكني ضد تراجعنا المخيف، ضد إحباطنا لكل محاولاتنا للفهم، محاولاتنا للوجود. إن إشكالية المثقف العربي هي خشيته أن يبادر، أن يجدد، أن يتصدر المشهد. المثقف العربي لا يقنعه نظيره من مثقفي العرب، بقدر ما يقنعه «صعلوك» غربي. هذه حقيقة. ولا يخفى على أحد أن الكثير من أدباء الغرب على سبيل المثال، أولئك الذين تصدروا المشهد بولوج كتاباتهم في المشهد الثقافي العربي، وتداولها بين قراء العرب، ربما لا يجدون حظهم من الاهتمام في بلدانهم. وبناء على ذلك، فقد بدأ الكثير من أولئك الأدباء، أعني أدباء الغرب، الذين فشلت تجربتهم داخليًا، يهجرون أدبهم ويصدرونه إلى العرب. هذا ليس عيبًا فيهم، ولا أعتبر فشلهم نقيصة، ولكني أتأسى لحال كاتب عربي يُقال له شتى العبارات الجارحة، مثل: «أنت لست فيكتور هوجو، ولا جوزيه ساراماغو، ولا جابرييل غارسيا ماركيز. أنت لست هاروكي موراكامي، ولا كارلوس زافون، ولا آرنست هيمنغواي. أنت لست ديستويفسكي، ولا ليو تولستوي، ولا ميلان كونديرا. أنت لا يمكنك أن تكون فلوبير، ولا ألكسندر سولجينتسين، ولا ألبير كامو -مع الاحترام لترتيب الأسماء الذي جاء عشوائيًا-». هذه العبارات ليست جارحة لذاتية الكاتب الخاصة، ولا محبطة لكل مشاريعه الأدبية، بقدر ما تنم عن ضعف الثقة في النفس لدينا كعرب. والمصيبة حين تأتي هذه العبارة من كاتب له ثقله، ووزنه في الساحة العربية. لذلك فإن العربي دائمًا يختلق الرمز، يختلق الأب الروحي له من الطرف الآخر من العالم، وسيظل كذلك إلى الأبد، ما لم يفكر بطريقة أخرى، سيظل رازحًا تحت عقدة النقص. تقفز إلى ذهني الآن قصة فكتور هوجو، قبل أن يكون فكتور هوجو بصفته الروائي الشهير. فقبل أن يحدث ذلك أرسل في كتور هوجو -بحسب القصة الشهيرة - مخطوطه لدور نشر عدة، وكانت تُرفض. أتفهم أن لدى الناشر الذي رفض نشر عمله رأيًا فنيًا مغايرًا عن الناشر الذي قرر أن يتبنى نشر روايته الشهيرة «البؤساء». وهذا ما يجعلنا إزاء تساؤلات حول رمزية العمل وأهميته، بالذات لدى العرب، الذين تعودوا الإفراط في التمجيد. الرواية رائعة بلا شك، ولكنها ليست الأفضل على الإطلاق، وليست مما لا يمكن أن تتفوق عليها أي رواية عربية للحد الذي يجعلنا نحبط وجود أي كاتب أو كاتبة، بإخباره أنه ليس فكتور هوجو. فلنكن أكثر واقعية ونطرح هذا السؤال الآن: «كيف سيتلقى القارئ العربي رواية كافكا على الشاطئ لو أن كاتبها عربي؟». يمكن لي تخمين ما سيحدث: على الأقل، لن يقال عنها بأنها رواية عبقرية، رغم عبقريتها، ولن يقال عنها بأنها فانتازية، رغم فانتازيتها السيريالية الفلسفية. وهنا لب المشكلة! نحن نختلق الرمز، إذعانًا إلى فكرة الآخر عنا، إلى رؤيته حولنا كعالمٍ نامٍ، وسيظل كذلك إلى الأبد. ** ** - عادل الدوسري