الأمراض والأسقام من سنن الحياة التي لابد منها، ولا انفكاك عنها، كتبها الله جلّ جلاله وقدّرها لتُذكّر الناس بالنعمة المنسية على الدوام: نعمة الصحة والعافية، ولولا الأمراض لما تذكّر أحدٌ افتقاره إلى خالقه وحاجته إليه في كشف البلاء وتخفيف الشدّة عنه. والمؤمن في استحضاره لاسم الله (الشافي) في قلبه وعقله وذهنه، يورثه ذلك آثاراً عظيمة، فكيف يمكن للمسلم تحقيقه للمنهج الشرعي في هذا الأمر؟ «الجزيرة» استطلعت آراء عدد من المختصين في العلوم الشرعية، وكانت رؤاهم التالية: مفهوم الشفاء يقول الدكتور رياض بن حمد بن عبدالله العُمري، الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الشافي من أسماء الله سبحانه وتعالى، دالٌّ على القدرة الإلهيّة في علاج ما تشتكيه النفوس والقلوب من الأمراض، وما تشتكيه الأبدان من الآفات، وبهذا المعنى جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله الطبيب» أخرجه أبو داود والنسائي، والمقصود أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُبرئ ويُعافي على وجه الحقيقة، وهذا الاسم لله تعالى (الشافي) لم يرد صراحةً في القرآن الكريم، وإنما جاء على صيغة الفعل في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 80)، أما في السنة فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: «أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً» رواه مسلم، ومما ينبغي توضيحه في هذا السياق أن الأمراض تعتري النفوس والقلوب كما تعتري الأبدان، وفي هذا توسيعٌ لمفهوم «الشفاء» الذي تضمّنه اسم الله الشافي، والله سبحانه وتعالى هو الشافي للأرواح والقلوب كما أنه تعالى الشافي لأمراض البدن، ويشمل ذلك ما يتعلّق بالشبهات والشكوك والوساوس، وما يتعلّق بالشهوات التي تضطرم نارها وتُقلق صاحبها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57). أعظم العبادات ويسترسل الدكتور رياض العُمري قائلاً: وقد جعل الله الشفاء في الكثير من الأسباب والوسائل: كالدعاء وسؤال الله فهو من أعظم العبادات التي يُتقرّب بها إلى الله تعالى، ومن الآداب الشرعيّة عند زيارة المريض أن يُقال له: «أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك» سبع مرّات، وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم رب الناس مُذهب البأس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادرُ سقماً»، والرقية باب شرعيّ من أبواب الشفاء الفعّالة، وجاء في الأحاديث قدرتها على علاج بعض الأمراض الحسيّة، وهي سبب من الأسباب وكل سبب كما قال أهل العلم: له شروط وموانع فإذا توافرت الشروط وانتفت الموانع نفذ السبب وتحققت فائدته وإلا فلا، وكل سبب مباح للشفاء ثبت بطريق الحس والتجربة أو العقل فعاليته فهو مقبول شرعاً، لا يتعارض فعله مع تمام توكل القلب على الله تعالى، وهذا من كمال دين الإسلام الذي يأمر بالتوكل مع فعل الأسباب الحسية ولا يرى تعارض بينها، والمؤمن في استحضاره لاسم الله (الشافي) في قلبه وعقله وذهنه، يورثه ذلك آثاراً عظيمة منها: أولاً: إخلاص اللجوء إلى الله والتعلق به حال المرض، لأن الشفاء منه سبحانه وتعالى وحده دون ما سواه، وهذا لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ولكنّه -أيضاً- يمنع من التفات القلب إلى الأسباب ونسيان خالقها والآمر بها. ثانياً: العلم بأن الله سبحانه وتعالى قد يؤخر عن العبد شفاء البدن لأجل شفاء الروح، فيُقدّر المرض لتنقية المؤمن وتزكيته وتمحيصه، ومصداق ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنبه، حتى الشوكة يشاكها، أو النكبة ينكبها -أي المصيبة-» رواه أحمد وأصله في الصحيحين، مما يورث الرضا بأقدار الله. ثالثاً: عدم اليأس من تأخّر الشفاء إيماناً بأن قضاء الله للعبد خيرٌ من قضاء العبد لنفسه، وتسلية النفس بتذكّر أحوال أنبياء الله تعالى والصالحين من عباده الذين ألمت بهم الأمراض والأوجاع والمصائب فلم يُقابلوها إلا بالصبر واحتساب الأجر: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83-84). تكفير الخطايا ويشير الدكتور نهار بن عبد الرحمن العتيبي عضو هيئة التدريس في جامعة شقراء أن الله عز وجل يبتلي عباده بالخير وبالشر كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35). ومن جملة الابتلاء هو الابتلاء بالأمراض والأوجاع التي يصيب الله تعالى بها عباده للتمحيص وتكفير ذنوبهم وخطاياهم. كما قال سبحانه: {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 141) قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- عن ابن عباس رضي الله عنهم: {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}، قال: «يبتليهم». ولا شك أن الله تعالى عندما يبتلي عبده المؤمن فإنه يريد له الخير، وذلك لأن البلاء والمرض يكفِّر الخطايا والذنوب، فعَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه التِّرْمِذيُّ وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحِيحٌ، وإذا ابتلى الله عز وجل عبده المؤمن بالمرض أو بغيره من أنواع البلاء فعليه بالصبر والأخذ بأسباب الشفاء، فإن أجر الصبر على البلاء عند الله عز وجل عظيم، يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} (النحل: 127)، ويقول جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)، فالمؤمن من صفاته الصبر، فإذا ابتلي بالمرض ونحوه كفقد القريب صبر، وإذا ابتلي بكثرة النعم والأموال شكر، وفي هذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. رواه مسلم. التضرع عبادة ويضيف الدكتور نهار العتيبي قائلاً: ثم إن المريض في حال ضعفه بسبب المرض يلجأ إلى خالقه وشافيه وهو الله تبارك وتعالى، ويعلم يقيناً أن الشفاء من الله تعالى وأن الله سبحانه قال في محكم كتابه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 80). قال ابن كثير -رحمه الله: «قال إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه». ولا شك أن التضرع إلى الله تعالى عبادة من أجل العبادات، فعندما يشعر المسلم بضعفه وحاجته إلى الله جل وعلا فيلجأ إلى ربه ويدعوه بأن يكشف عن هذا المرض ويشفيه منه ويأخذ بالأسباب التي تؤدي للشفاء فإنه يؤجر على ذلك من الله الكريم سبحانه، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43). المعونة من الله ويؤكد الداعية عبدالكريم بن فهد المشيقح أن الإنسان تحت كل ظرف وفي أي ردهة زمن لا ينفك عن ابتلاء، ويتعرض لمرض وعناء، وفي كتاب الله آية عمَّت كل أحد، قال جل جلاله {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (سورة البلد: 4)، والابتلاءات تدخل الدور، وتلج في القصور، وليس في مخلوقات الله عبث تعالى الله وتقدس، كما إن الابتلاءات ليست مقصودة لذاتها ولكن لثمراتها، قال الله جل جلاله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 155). ويشير المشيقح إلى أن الابتلاء بالصبر ينقلب إلى نعماء، قال تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. والله جل جلاله يبتلي عبده ليرقِّيه ليس ليشقيه، وإذا ابتلى أرحم الراحمين عبده فإنه لا يتركه يواجه الابتلاء وحده، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ المعونةَ تأتي من اللهِ على قدرِ المؤنةِ، وإنَّ الصبرَ يأتي من اللهِ على قدرِ البَلاءِ)، ولقد افتتح ربنا سبحانه سورة العنكبوت بقوله: {أَلَمْ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت: 1-2)، وختمت السورة نفسها بآية مطمئنة تاليها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69). وبين المشيقح أن الناس ترى الابتلاءات محنًا، والمؤمن يعتقد أن الابتلاءات منح ومنن، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ أو المؤمنةِ في نفسهِ ومالهِ وولدهِ حتى يلقَى اللهَ وما عليهِ من خطيئةٍ»، وكلما كان البلاء أشد وأخطر صار الجزاء أعظم وأكبر، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ عِظمَ الجزاءِ معَ عظمِ البلاءِ وإنّ اللَّه إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم فمن رضِيَ فله الرِّضا ومن سخِطَ فلَهُ السُّخطُ»، لذا نجد أهل الأيمان إذا نزل بهم بلاء مرض أو سواه إذا هم صابرون محتسبون ذاكرون مطمئنون.