لكل ثقافة فهمها الأدبي الخاص للمشتركات الأدبية، وهذا الفهم في حقيقته هو ما يشكل منطلقاتها الأدبية الذاتية التي يسهم أيضاً في قولبتها فهماً وجودياً- وإن كان يعد ثانوياً - للمجردات والماديات الحياتية. من ذلك تلك التقاطعات البينية التي ينتظم في عقدها مصطلحي التناص والسرقة الأدبية والتي تتولد في بواعث اجتماعية وثقافية بينية كذلك. فلقد كان العرب في ثقافتهم الأولى وأعني بها تلك المرحلية التي تمتد من العصر الجاهلي حتى عصر الدول المتتابعة، يطلقون على أي تقارب كتابي سواء في التركيب التشكيلي للنص الشعري أي البنية أو حتى على مستوى المعنى بأنها نوع من السرقة الأدبية. وقد يكون لأجدادنا الأُوَلْ عذرهم في ذلك، إذ قد كانت فكرة الفرادة هي من ضمن مجموعة من القضايا التي كانت تشغل العقل العربي الفاعل لقرون، لكن مع التتالي الحضوري للمؤثر الثقافي الغربي في أدبياتنا العربية ومع شيوع تلك الأجناس الغربية في التركيب البنيوي للثقافة الأدبية العربية والحضور الطاغي للثقافة النقدية الغربية بمدارسها المتعددة في أدبنا العربي، فإن العديد من الأفكار والثوابت الثقافية العربية في شقها الأدبي قد تغيرت أطراف معادلتها بشكل أكبر. فكان أن حضرت في ثقافتنا العربية أطروحة «التناص» لتمثل بديلا عن مفهوم «السرقة الأدبية»، بل أكثر من ذلك فإن الحضور الأدبي لمصطلح التناص لم يكن فقط في شقه النوعي الذي أوجدته الناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا، وإنما تعدى ذلك ليتضمن تلك الأنواعيات الخمسة التي أوجدها كمقاربة أدبية الناقد الفرنسي الشهير جيرارد جينيت. ويمكن لنا أن نلحظ تلك التحولية في المكون البنيوي للذهنية العربية الحديثة متمثلة في قضية الملحمة الشعرية الشهيرة التي كتبها شاعر إيطاليا الشهير دانتي اليغري في القرون الوسطى، وأعني بها «الكوميديا الإلهية». إذ في مرحلة تاريخية بعينها من واقعنا الأدبي كنا نرى أن ملحمة دانتي بمكونها الثلاثي؛ «الجحيم»، «المطهر»، و«الجنة»، ماهي إلا مجرد سرقة أدبية أخرى لرسالة الغفران التي كتبها أديبنا وفيلسوفنا العربي أبا العلاء المعري. وكنا نستشهد على قولنا هذا بما ذكره الباحث الأسباني دون بلاسيوس، وكذلك بما دونه المستشرق الإيطالي كيدو شاشولي، الذي عبر عن اعتقاده بأن الملهاة الإلهية إنما قد بنيت في أغلب مكونها التأصيلي الفكري على رسالة الغفران للمعري. بيد أنه ومع قدوم ستينات وسبعينات القرن الميلادي المنصرم، فإن حالة التأزم والانغلاق الفكري الأدبي العربي كانت قد بدأت تخف شيئا فشيئا، فألفينا المشتغلين بالعمل النقدي يموضعون النص في مربع تاريخي مجتمعي وهو مايسمى بالتفاعل السوسيولفظي أي تلاقي نصوص فكل نص هو امتصاص وتحويل لنصوص أخرى. بل أكثر من ذلك فقد سمحنا لعقولنا المغيبة بفعل حالة التلقين المعرفي والاجترار الثقافي في شقه الأدبي، أن تتلمس طريقها لتحقيق حضوريتها الثقافية الفاعلة والمفكرة. فتغيرت الكثير من رؤانا وآلية تعاطينا الفكري مع العديد من القضايا والجدليات التي كنا نرى أنه حتى مجرد التفكير في مقاربتها أو التقاطع الفكري ولو قليلا معها، إنما يمثل حالة من التجديف الأدبي. ** **