1 كنت قرأت "الكوميديا الإلهية" للشاعر الايطالي دانتي للمرة الأولى سنة 1966، بعدما عثرت في مكتبة "السنة" بالطالعة الصغرى في فاس على ترجمة قام بها المصري حسن عثمان. كان حصولي على هذه الترجمة من هبات حبّ الأدب. قرأتها بلذة أرفعها الى مرتبة لذة الشعر. ثم عدت لاحقاً الى قراءتها، وأنا أتابع قراءة الأعمال الصعبة التي كنت اخترتُها طريقاً لقراءاتي. عمل شعري في ثلاثة أجزاء ضخمة نقله المترجم بلغة عربية لها الانتعاش والدقة. كنت معجباً بالترجمة، وهي التي هيّأت للعودة بأن تتكرر. عودة القارئ الى عمل هي ما يرسخ العمل في تفرده. شيئاً فشيئاً أصبحت القراءة تكشف عن عمل قريب الى نفسي. يمكن القول أيضاً بأن القراءة الكاشفة تحققت لي في نهاية السبعينات عندما كنت أمرّ بأزمة صراعات واجهتها في حياتي الشعرية والثقافية. في غمرة هذه الصراعات المدمرة، وجدتني أعود مجدداً الى "الكوميديا الإلهية". ولا أدري حتى الآن بأي قدرة تبينتُ شيئاً لم يكن واضحاً لي من قبل. بهذه الأبيات في نهاية الأنشودة الأولى من "الجحيم"، بدأت القراءة تُكشف لي ما كان من قبل بالنسبة لي شيئاً غير معتاد: "أجابني إذ رآني أجهش باكياً: "إذا أردت النجاة من هذا المكان الموحش، فأجْدى عليكَ أن تسلك لك طريقاً غيره. لأن هذا الوحش الذي يُبكيك، لا يدع إنساناً يمرُّ في طريقه، بل يعوّقُه كثيراً، الى أن يقتله، وله طبيعة شريرة جد ملتوية، حتى إن شهوته الجامحة لا تشبع أبداً، ويصبح بعد الطعام أجوع من ذي قبل والحيوانات التي يلقّحها كثيرة، وسيزيد عددها بعد،..." إنه صوت فرجيل "ذلك النبع الذي يفيض بالكلام نهراً كبيراً" كما يصفه دانتي. ولكنه صوت "الالياذة" كذلك صوت يبقى حياً على لسان دانتي، الباحث في حلكة العالم عن جواب على ما كان يعانيه من ظلم في حياته ومن إخفاق. والأمر الذي يوجهه فرجيل الى دانتي بسلوك طريق غير الطريق الذي كان يسير فيه أحسست كما لو كان موجهاً لي أنا الآخر، في زمن يبعد بستة قرون عن دانتي، وفي لغتي العربية. كنت مهتماً بقراءة "الكوميديا الإلهية"، إذاً، وأمنح نفسي حق تأويلها حسب ما يبدو لي متناسقاً مع تدرج القراءة، لأن العودة الى هذا العمل الاستثنائي أصبحت موشومة باللوعة. وإذا كان خورخي لويس بورخيس يرى أن "الكوميديا الإلهية" كتاب علينا قراءته، بل وعلينا قراءته بطريقة فطرية، فإنه يؤكد أن القراءة المتعددة لهذا العمل هي من خصيصة أعمال القرون الوسطى. قراءة فطرية ومتعددة تحررني مما يمنع عني سعادة القراءة وسعادة التأويل في الآن ذاته. 2 ترجمة حسن عثمان لعمل "الكوميديا الإلهية" يفرض سؤال المسموح والممنوع في الترجمة. لقد كان دانتي جعل نبي الاسلام في الجحيم هذا الموقف الديني الصليبي من قبل دانتي، ومسيحيي القرون الوسطى، يبعث الاشمئزاز في نفس أي مسلم. وأول ما واجهه المترجم حسن عثمان هو حدود الترجمة. عبارة "أول ما واجهه" تعني أن المترجم عندما يبلغ الأبيات الخاصة بنبي الإسلام، قام بحذفها. والمواجهة تفيد أن إعجاب المترجم، الى حد الجنون ب"الكوميديا الإلهية"، وقرار عزمه على ترجمتها الى العربية، وقعا في حالة اصطدام لحظة الاختيار عندما تمّ الشروع في الترجمة. هناك نقاد كانوا قساة على المترجم لأنه لم يكن أميناً في النقل، وهناك سخرية منه. ولكني لم أهتم أبداً بهذا الأمر، وأرى أن المترجم كان متسامحاً مع دانتي في موقفه من النبي، وقد غلّب الأهمية الجمالية على الموقف الديني. من دون هذا الموقف، لم يكن للقارئ بالعربية ان يحظى بترجمة حسن عثمان، في الخمسينات، لعمل "الكوميديا الإلهية". إن تصوير دانتي لنبي الاسلام كواحد من شخوص "الجحيم" يجعلنا نتساءل عن غياب اسم المسيح في هذا العمل، وعن دلالة العقاب والجزاء اللذين خصّ بهما كُلاً من الخصوم والأصدقاء. 3 قراءة اللذة أو قراءة السعادة اختيار لا يجبرنا على الالتفات الى غير العمل في ذاته. والقراءتان معاً تتقاطعان مع زمن القراءة وزمن المعرفة. وهكذا كنت صادفت في مرحلة متقدمة من الاهتمام ب"الكوميديا الإلهية" قراءة المقارنة. كثيراً ما انصبّت هذه المقارنة على أثر "الكوميديا الإلهية" في "الفردوس المفقودة" لملتون. وحتى بورخيس، العالم بالثقافة العربية والاسلامية، على نحو مدهش، اكتفى بالمقارنة مع "موبي ديك". على أنه أشار الى العلاقة الخفية، غير المبرهن عليها، بين ما نعثر عليه في "الكوميديا الإلهية" وبين "ألف ليلة وليلة" من بين مظاهر هذه العلاقة حضور الشرق بألوانه وعجائبه. مثل على ذلك البيت الوارد في الأنشودة الأولى من "المطهر"، بعد مغادرة دانتي لحلكة عالم "الجحيم". جاء في البيت: "لون رائع من لازوَرْد الشرق". هكذا يصف دانتي السماء، وهو ينتقل من "الجحيم" الى "المطهر". سماء شرقية أو سماء الشرق، معطياً إياها لون الياقوت الأزرق، كأنما سماء مطهر دانتي لا يمكن أن تكون الا شرقية بوصف عربي، سماء بلون خلّدته "ألف ليلة وليلة". باحثون آخرون قضوا عمراً في قراءة المقارنة بين "الكوميديا الإلهية" من جهة، وبين عملين عربيين شهيرين هما "الفتوحات المكية" لابن عربي و"رسالة الغفران" للمعري، من جهة ثانية. وكان الاسباني آسين بلاسيوس أول من أثار ضجة حول عمله المخصص لهذا الصنف من المقارنة الصادمة. قراءة لها الآن تاريخها. ولم يعد أحد يجادل في اطلاع دانتي على مصادر أساسية في الثقافة العربية والإسلامية تتعلق بأدبيات الإسراء والمعراج، وهو الذي عاش في ايطاليا العارفة بهذه الثقافة من خلال كل من صقلية والأندلس، أو من خلال ترجمات فرنسية وايطالية لذلك العهد. 4 وأعمد الى تقديم مقارنة من حقل مختلف، من دون التخلي عن السابق. أقصد بالحقل المختلف استعمال دانتي لضمير المتكلم منفصلاً ومتصلاً واعتماد الرؤيا. إن ضمير المتكلم هو سمة كتابة الحداثة. "محاولات" مونتيني، الفرنسي، تؤرخ لميلاد ضمير المتكلم في الثقافة الفرنسية. و"الكوميديا الإلهية" سابقة. ولا نستطيع فهم ظهور ضمير المتكلم في عمل استثنائي، ك"الكوميديا الإلهية"، من دون الانتباه الى "الفتوحات المكية" لابن عربي ومن دون "التوابع والزوابع" لابن شهيد أو كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم، بل ومن دون العودة الى نظرية النفس كما يبلورها ابن رشد في شروحه على أرسطو. فضمير المتكلم متداول في هذه الكتابات العربية الأندلسية وظهوره في "الكوميديا الإلهية" أخطر من كل عنصر آخر في هذا العمل. و"الكوميديا الإلهية" كتاب رؤيا، كتاب رؤيوي. بهذا الخصوص نستحضر ثقافة عربية - اسلامية بكاملها أعطت الرؤيا مكاناً بارزاً في كل الأعمال التي تستدعي، ببلاغة مستترة، عالم ما بعد الموت، وعالم الإسراء والمعراج. والرؤيا بدورها ستتحول الى صفة كبرى للحداثة. لذلك فإن "الكوميديا الإلهية" عمل يؤرخ لظهور ذات تعيد تسمية الإنسان باستعمال ضمير المتكلم، وتعيد تسمية الكون باعتماد الرؤيا. لقد كانت "الكوميديا الإلهية" حدثاً شعرياً لأنها بالضبط فكرة شعرية أعادت اختراع الشعر بهذين العنصرين. إنها المنتجة لفكرة شعرية لم تكن مودوعة من قبل في الشعر الغربي. فلم يكن الشعر السائد هو خالق العمل، بل العمل هو الذي أصبح خالق الشعر، مغامرة تسمية جديدة، تبدل التسمية المتداولة، في اللغة اللاتينية، من أجل خلق تسمية مغايرة. وفي الإقدام على تسمية جديدة، صادرة عن ذات منفردة، يلتقي دانتي بالثقافة العربية التي أعطت ثقافة البحر الأبيض المتوسط القدرة على مواجهة الممنوع، وهي تجعل من كل من ضمير المتكلم والرؤيا عنصرين مؤسسين لخطاب أدبي، هو مفتتح ثقافة الحداثة.