بدخولي الجامعة شعرت بالاستقلال الكامل في اتخاذ قراراتي الفكرية وتكوين علاقات جديدة مختلفة كل الاختلاف عن تلك الصداقات القديمة التي تكونت في المراحل الدراسية المبكرة مع طبقة من الشباب المتطلعين للمعرفة والباحثين عن ذواتهم في قراءة كتب ومجلات الفكر الإسلامي الحديث من خلال تأصيل رؤى جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت في التأثير في ثقافة جيل السبعينيات الميلادية من القرن الماضي في دول الخليج العربي بعد هجرة قيادات فكرية وسياسية إلى دول المنطقة وبدئهم في الوصول إلى مراكز النشر والإعلام والتعليم. وربما ساعدني عشقي للأدب وغرامي بقراءة الروايات والسير الأدبية وأدب الرحلات والتاريخ على التخلص السريع من أثر طغيان تلك القراءات القديمة التي كانت تصرفني أحيانًا عن الأدب إلى ما كانت تصدره الجماعة من كتب ومجلات وما هو طاغٍ ومنتشر في أوساط الشباب من كتب سيد قطب وأبي الأعلى المودودي ومحمد قطب وفتحي يكن وكامل الشريف وأبي الحسن الندوي ونجيب الكيلاني وغيرهم، أو مجلات استولت على اهتمام شباب ذلك الجيل كالمجتمع والبلاغ الكويتيتين والدعوة والاعتصام المصريتين، وأشرطة الشيخ المفوه عبد الحميد كشك. لا شك أن الغربة للالتحاق بالجامعة أتاحت لي سبل الاستقلال الفكري؛ فبدأت أبحث عن ذاتي بتعميق اختياراتي الشخصية لما أقرأ ومن أصحب وأين أذهب وكيف أفكر وما ذا أقبل وماذا أرفض، فكأنني طير محبوس فر من قفصه واستعذب فضاء الحرية بدون رقيب أو متابع أو مستنكر أو عاتب أو مناقش بفضاضة حين لا يستمع ما يروق له، ورويدا رويدا تكونت ملامح شخصية جديدة لم تكن محل رضا بكل تأكيد عند كثيرين، ومنهم مقربون وأصدقاء لهم منزلة كبيرة في نفسي؛ بيد أن التغير حتمي فيما يبدو فلا بد من أن تفترق بنا الطرق ، وهذا ما كان، فقد طلقت الأجواء القديمة وبدأت أجواء جديدة تتكون، أدباء متنورون في الوسط الثقافي، وإعلاميون، وكتب ونقاد وجلسات حوار مفتوحة في أمسيات عذبة تلاحق الجديد في مكتبات الرياض؛ بدءاً بمكتبة (دار العلوم) لعبد الله العوهلي في شارع الستين، وليس انتهاء بمكتبة دار اللواء لعبدالعزيز التويجري، وكأن ثمة عملية إحلال وإبدال تتم بطريقة عفوية حتمها التفكير الجاد في ضرورة الانعتاق من أسر الجماعة إلى فضاء الحرية والشعور بالقدرة على اجتراح شخصية جديدة مختلفة قد تكون مناقضة تمامًا للخط القديم بعد اكتشاف انسداد الطريق الفكري الأول وانفتاح طرق عدة تهيئ عشرات الخيارات المحتملة للإجابة على سؤال: ما هي أهدافك؟ ومن تكون؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ وما هي شخصيتك؛ هل هي هم أم هي أنت؟ جملة من التساؤلات خلقتها حوارات معمقة كانت تدور بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أروقة مكاتب جريدة الجزيرة بين مثقفيها وكتابها، أو مع مفكرين وأدباء أتاح العمل الصحافي الأدبي لي أن أتعرف على رؤاهم وأفكارهم والإفادة من تجاربهم. في الجزء الرابع أسماء صحافية كان لها بريق وحضور ثري على صفحات الجزيرة. يتبع