لنا أن نعد إقبال الشيخ ابن باز على نشر مقالات في مجلات دينية خارج السعودية وكذلك مبادرته بكتابة تعليقات على قضايا وأمور يعترض عليها ونشرها في الصحف السعودية مظهراً من مظاهر الفاعلية الحركية التي كان ينفرد بها، ولا يشابهه فيها أحد من أقرانه المشايخ. إن الفاعلية الحركية - التي هي نقيض للسلبية والانكماشية والتقوقع - صفة أصيلة في شخصيته، وكان ينطوي عليها قبل أن يعم وينتشر الوعي الحركي الوافد على السعودية عن طريق الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ. ومما يختلف فيه ابن باز عن بقية المشايخ النجديين أنه كان لديه ميل لأهل الحديث، رغم تمذهبه الفقهي بالمذهب الحنبلي. وهذا الميل هو الذي فتح الباب للحديثيين (أو أهل الحديث)، حينما كان رئيساً للجامعة الإسلامية، أن يكون لهم حضور قوي فيها، مع أنه كان من المنتظر أن يكون هذا الحضور للإخوان المسلمين، لأنهم كانوا وراء فكرة أنشائها. وعلينا أن نأخذ قول ابن باز لمسعود الندوي أن المترجم ربما اختلطت عنده جملة (قوة أساسية) بجملة (قوة سياسية) أنه ليس بالضرورة هو من كلام ابن باز. فهذا التخريج قد يكون صاحبه هو الذي قرأ عليه كتاب المودودي أو أحد الحاضرين في مجلسه، حين قُرئ عليه الكتاب. ونستخلص أيضاً أن ما استوقف ابن باز في كتاب المودودي هو تفسيره لتلك الآية الذي حسب في أول الأمر أنه خطأ في الترجمة، ولما أبان مسعود له أن ليس ثمة خطأ في الترجمة، هوّن من شأن اعتراضه على تفسير المودودي الجديد في تلك الآية، بأنه القوة (السياسية). ما هوّن ابن باز من شأنه ببراءة، يقع في لب الاختلاف الجوهري بين الإسلام الحركي الجديد والإسلام التقليدي السائد منذ قرون طويلة. وذلك التفسير السياسي المتعسف لتلك الآية هو ما سيجعل أبو الحسن الندوي - أحد المسهمين في صناعة الإسلام الحركي والمبشرين به - يضيق في وقت متأخر بذلك التفسير، ويعلن تحفظه عليه وانتقاده له في كتاب أسماه (التفسير السياسي للإسلام: في مرآة كتابات الأستاذ أبي الأعلى المودودي وسيد قطب)، الذي أصدره في أواخر سبعينيات القرن الماضي. الكتاب الذي عرف ابن باز من خلاله اسم المودودي، هو عبارة عن محاضرة ألقاها المودودي سنة 1939، وكان قد ترجمه إلى العربية محمد عاصم الحداد، قبل قدومه وأستاذه إلى الرياض بأربع سنوات، ونشرته دار العروبة للدعوة الإسلامية بلاهور. قراءة ابن باز لهذا الكتاب وسؤاله عن حال المودودي هما اللذان دعيا مسعود الندوي حين التقاه في بيت الشيخ محمد بن إبراهيم، أن يطريه - وكان آنذاك على مشارف الأربعين من عمره – بأنه «عالم ممتاز». ثمة مثقف من الرياض - وهو شخصية مهمة - كان على علم باسم المودودي لكنه لم يكن قد قرأ له بعد. وقد أجلّت الحديث عنه، لأنه لم يكن في الرياض حين زارها مسعود الندوي ومحمد عاصم الحداد، وكان في الحج. هذا المثقف هو الأمير مساعد بن عبدالرحمن آل سعود - وهو من إخوة الملك عبدالعزيز الصغار، وفي ذلك الحين لم يكن قد تولى منصباً بعد - الذي التقاه مسعود في مكة. وفي أول لقاء بينهما قدم له مسعود كتب المودودي. فقال: «لقد وصلتني هذه الكتب بالأردية وإن شاء الله سأقرأ هذه الكتب أيضا». ذلك أنه كانت له مكتبة - قال عنها مسعود - إنها معروفة ومشهورة. وهذه المكتبة كانت لبيع الكتب ومفتوحة للمطالعة. ويقول عن لقائه الثاني به: «بدأ يطلع على (معضلات الاقتصاد: المسألة الاقتصادية للإنسان والحل الإسلامي). - الكتاب للمودودي وهكذا ترجم سمير عبدالحميد إبراهيم عنوانه من الأوردية إلى العربية، أما عنوانه بحسب النسخة المترجمة إلى العربية فهو: معضلات الاقتصاد وحلّها في الإسلام -ودار الحديث عن الاشتراكية لساعة، فقد ظن خطأً أننا نميل إلى الاشتراكية، وقد أكدت له عكس ذلك، وألقيت الضوء على فلسفتها وأصولها. تبدل الموقف، وأخذ هو بنفسه يذكر بعض جوانب الاشتراكية، ويعارضني على طول الخط! وعلى كل حال دار الحديث بجدية كاملة، ومعقولية واتزان، وقد تحمل الأمير بصدر رحب، كلام العبد الفقير ... وعند عودتي سألني الشنقيطي وماجد أسعد عن الأمير فقلت: وجدناه كما سمعنا، وهو رجل عاقل يفهم الأمور ويزن كل شيء بميزان العقل، وهو واسع الاطلاع والشباب هنا يرغبون في أن يصبح وزيراً للتعليم، والأمير نفسه يرغب في هذا». لم يفصح - كما ترون - عن الجوانب والموضوعات التي كان الأمير يعارضه فيها على طول الخط، ومع هذا فإني أخمّن أنها معارضة متفتحة متنورة - والأمير يشهد له تاريخه بذلك - لوجهات نظر متشددة ومتزمتة ومسعود الندوي كان كذلك. أما قوله بأن الأمير كان يرغب أن يصبح وزيراً للمعارف، أشير إلى أن محمد السيف في كتابه: (ناصر المنقور: أشواك السياسة وغربة السفارة)، ذكر أن الطلبة السعوديين المبتعثين في القاهرة آنذاك، قد نما إلى علمهم اعتزام الملك عبدالعزيز إنشاء وزارة للمعارف فكتبوا إلى الأمير مساعد بن عبدالرحمن، الذي سبق أن أرسل لهم نسخاً من كتابه (إلى إخواني في الدين والنسب)، فكتبوا إليه يشكرونه على الكتاب ويقترحون عليه أن يتولى زمام هذه الوزارة، فرد عليهم بأدب شاكراً لهم مشاعرهم، ومعتذراً، ومعللاً بأن التعليم سيبقى في صلب اهتماماته. من واقع يوميات مسعود في الرياض التي أبرزت ما سجله فيها، لم يكن هناك ما يدعو إلى التفاؤل، بأن ثمة مستقبلاً سيكون للإسلام الحركي في هذه المدينة، ومع هذا فهو لم يغلق باب الأمل. انظر في هذه الواقعة التي حصلت في مكة: «بدأ عاصم يهرول تحت أشعة الشمس المحرقة بعد أن رأى همة أمجد علي الرامبوري المتزايدة، فقد التقيا بعدد من شباب نجد، وعرفناهم بالدعوة، وقدم لهم الكتب لمطالعتها وقد حضر بعضهم للقاء العبد الفقير هنا في مقر إقامته». يعلق على هذه الواقعة - بكثير من الإطراء وكثير من الأمل - قائلا: «رغم ما في أهل نجد من اتزان شديد وصمت أو التزام بعد الكلام، إلا أن فيهم صلاحية واستعدادا لقبول دعوة الحق، وصلاحية واستعدادا للبحث عن الحق». والمقصود بدعوة الحق هنا، هو دعوة الجماعة الإسلامية، لصاحبها المودودي. وانظر كذلك في هذه الواقعة: التقى مسعود بالشيخ محمد بن مانع مدير المعارف صدفة في مكة - وكان مقر إدارة المعارف هناك - والشيخ، كما رآه، كان طاعناً في السن، فأعطاه كتب الجماعة الإسلامية المطبوعة «مما أقلق عاصماً إلى درجة كبيرة، فأخذ يقول: ما فائدة إعطاء الكتب لمثل هؤلاء الناس الطاعنين في السن؟». يجيب مسعود عن سؤال رفيق رحلته الاستنكاري، بأن كلامه صحيح، ولكن وصول كتب إلى هؤلاء العلماء أمر طيب!. عند لقائه والحداد بالشيخ عبدالظاهر أبي السمح إمام الحرم المكي الذي كان قد قرأ كتاب المودودي (نظرية الإسلام السياسية)، أطلعاه على مطبوعات الجماعة الإسلامية، فألقى نظرة على الكتب وقال: لقد شاهدنا بعضها من قبل، لكن يجب عليك أن تحتاط كثيراً، فقد لا يعجب مضمون هذه الكتب بعض الناس، فقال له: نحن نعرف هذا جيداً، وقد واجهنا هذا الأمر في باكستان وجئنا هنا بهذا العزم. هذه الواقعة تشير إلى أن الشيخ أبي السمح، كان منفتحاً على القراءة في إسلام لم يعهده ولم يألفه، رغم سلفيته، وتدل - كما الواقعة السابقة - على أن مسعوداً كان صبوراً وطويل النفس. حين صرّح مسعود في ملحوظته حول مستقبل دعوة الجماعة الإسلامية في الرياض، بأن أمله هو ورفيقه ضعيف، في أن تجد دعوتهم صدى فيها، أرجع ذلك لأسباب عديدة، لكنه رأى - لمستقبل الدعوة في هذا المكان - أن من الكياسة والسياسة أن يتكتم عليها ويخفيها، وليته ذكرها، لكان أفادنا مثل ما أفادنا حين أزجى ملحوظات على دعوة الإخوان المسلمين التي تتفق وأهداف دعوتهم في إنشاء إسلام حركي، إذ أرشدتنا ملحوظاته إلى تبيّن الفروقات بين دعوة حسن البنا ودعوة المودودي. ربما كان أحد تلك الأسباب العديدة هو ما قاله له مثقف نجدي مجايل للشيخ عبدالعزيز بن باز، قابله في جلسة عند تقي الدين الهلالي في بغداد. هذا المثقف هو حمد الجاسر. فلقد قال له: «إن علماء نجد يفهمون الدعوة جيداً لكن بشكل غير شامل، كما أن ليس لديهم رغبة في التعرف على ما حولهم، ومن هنا حال هذا الأمر دون اتساع وجهة نظرهم، ولهذا السبب أيضاً فإن تأثيرهم في مجريات الأمور ضعيف». وإذا ما تدسسنا بين السطور، يمكن أن نضيف هذا السبب: وهو أن الشغل الشاغل للمشايخ في الرياض - كما قال مسعود - كان هو «كيف حال إخواننا السلفيين في الهند؟ كان هذا السؤال على لسان كل إنسان». إن ما يشغلهم هو السؤال عن حال إخوانهم السلفيين، فهم لم يكترثوا بالتعرف على دعوة المودودي ولم يأبهوا بأمرها! زيارة مسعود الندوي ومحمد عاصم الحداد للرياض أتت ضمن رحلة شملت البصرة والزبير وبغداد والموصل وكركوك ومكةوالمدينة، وكان هدفها التبشير بدعوة المودودي. ويضاف إلى هذا الهدف هدف آخر، يخص مسعود الندوي في زيارته للرياض، وهو أن كتابه (محمد بن عبدالوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) الذي أومأ إليه رفيقه في محادثتهما، كان يشعر بأنه يحتاج إلى استكمال وكان يأمل أن يجد عند أسرته من المشايخ ما يستكمل فيه كتابه في طبعة جديدة. همّة مسعود في التبشير بدعوة المودودي لم تكن تحدها تلك المدن، بل كان يتطلع إلى التبشير بها في مصر، لأنه كان يرى أن دعوة الإخوان المسلمين المصريين تنطوي - وهو محق في ذلك - على نقص فادح ومصابة بفقر مدقع، وتلجأ إلى أسلوب مضر بدعوتها.