(خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر)؛ كان هذا المبحث من أصعب مباحث المواجهة بيني وبين البلاغة التي أجبرني القسم عليها وأنا المفتونة بالأدب الحديث ونقده، ثم ما لبثت في بحثي الماجستير ارتطم بمباحث جديدة وعلى رأسها (التعبير عن المضارع بصيغة الماضي)، و(التعبير عن الماضي بصيغة المضارع)، وبينما أنا في رحلة التعليم الذاتي التي يضطر لها الباحث ليرمم كل مافاته على مقاعد الدراسة، وقعت في غرام هذين المبحثين! وصارت عندي رهافة في كل ما يتعلق بالزمن في البلاغة العربية حتى جمعني نقاش علمي مع أحد الزملاء تحدثنا فيه عن هذا الزمن فشجعني على الكتابة فيه، وبالفعل بدأت الكتابة في بحث صغير لم يتجاوز عشرين صفحة، لا يتسع الأمر فيه للتأصيل، ولم يُشف غليلي عند تلك المحطة الصغيرة، فالأمر يستحق أن يكون أحد الفتوح الجديدة في البلاغة العربية، فما كان مني إلا أن وهبته لطالبة من طالباتي في فترة إرشادي عليها في الماجستير فرحبت بالفكرة، وتم تسجيل الموضوع ولله الحمد وهي الآن في طور الكتابة النهائية. وكم أثلج صدري تلقي زميلاتي في التخصص للموضوع أثناء مناقشة الخطة، التي انتهت بالتبريكات والآمال المعلقة. ما لا يعرفه بعض القراء الكرام أن للبلاغة العربيّة زمنها الخاص الذي يتجاوز النِّظام الطبيعي للزمن، ويفتح أمام المتلقي بوابات التأويل المشرعة لمعرفة السرِّ وراء هذا التّحول الزّمني. وهذا الزّمن الخاص؛ قديم قدم البلاغة ذاتها، فهو منثور بين مباحثها المعروفة لاسيما المتعلقة بعلمي المعاني والبيان؛ لكنه لم يُسمَّ بهذه التّسمية، ولم أجد بين المختصين في البلاغة قديمًا وحديثًا من سمّاه بهذه التّسمية بالرغم من ظهوره في مباحث متفرِّقة. وعلى أنّ (الزّمن البلاغي) جاء في عناوين متناثرة لمقالات عربية وغير عربية؛ إلا أنّ الحديث فيه لم يتجاوز فكرة الزّمن المعروف في السرد، ولم تتطرق أي من هذه المقالات على قِلّتها للزمن البلاغي الذي أفرد له علماء البلاغة أبوابًا، وشواهد من البيان المعجز في القرآن الكريم. وأول ما يستحق أن يُسمّى بهذه التسمية - من وجهة نظري- الالتفات الذي قسّمه ابن الأثير إلى ثلاثة أقسام في كتابه: «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» وجعلها على النحو التالي: القسم الأوّل: الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة. وقد علّل لهذا النوع من الأسلوب وهو يرد على رأي الزمخشري الذي حصر السرّ البلاغي لهذا الخروج على خلاف مقتضى الظاهر؛ أنّه للتفنن في الأسلوب حتى لا يمل السامع فجاء رده: «والذي عندي في ذلك الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضتها وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال». القسم الثاني: الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، وقال عنه: «وهذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلب للتوسع في أساليب الكلام، بل لأمر وراء ذلك». وهو بهذا يُؤكِّد على وجود سرّ بلاغي وراء المجيء بالزّمن في هذا القسم على خلاف مقتضى الظاهر. القسم الثالث: الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالماضي يقول عن هذا القسم: «اعلم أنّ الفعل المستقبل إذا أُتى به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي وذلك؛ لأنّ الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي». ويقول الخطيب القزويني مُؤكِّدًا على ذلك: «ومن خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي تنبيها على تحقق وقوعه، وأنّ ما هو للوقوع كالواقع». فذكر السرّ البلاغي المرجو من وراء هذا التّحول الزمني وهو: «التنبيه على تحقق وقوعه لا محالة» لاسيما فيما يتعلق بتأكيد الأمور الغيبية في مقامات إنكار البعث وما وراء البعث. والشواهد على هذا الزّمن كثيرة لا يتسع لها المقال، اختصرها باستشهاد ابن الأثير بقوله تعالى في الآية التاسعة من سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}. يقول ابن الأثير: «إنّما قال»فتثير» مستقبلاً وما قبله وما بعده ماضٍ وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة» هذا الشاهد ومثله الكثير في القرآن الكريم -خاصّة- يدلّل على أنّ للبلاغة العربية زمنها الخاص الذي يحمل بين طياته أسرارًا بلاغية بحسب السياق الذي يجيء فيه، وهو زمن قديم لا نحتاج فيه إلا لزحزحة المصطلح، ليتوافق مع روح العصر، فالالتفات بأقسامه المذكورة هو زمن بلاغي يمكن دراسته تحت هذا الاسم في أي مدونة شئنا، وتأتي بعده عده مواضع يعرفها أهل البلاغة في مباحثها التي أرسى قواعدها القزويني في القرن السابع للهجرة. ** **