نحاول هنا أن نطرح اشكالية العروبة ومصيرها، انطلاقاً من المسألة اللغوية. 1 - فالعروبة مصابة، منذ نيف وألف سنة، بعقدة اللهجات أو اللغات العامية، التي تنامت تباعاً مع الشعوبية، في كنف اللسان الفصيح وعلى حسابه، متكاملة الاستقلال في ما عدا التدوين، متزايدة الهيمنة في ما عدا الدِّين. ومن نحوٍ آخر، نرى اللسان الفصيح مقطوعاً، منذ أواسط الألف الثاني للميلاد، عن مواكبة الحداثة، ومقصِّراً عن تغذية الثورتين المعرفية والتقنية، خلافاً لما فعله في عصر العتمة Dark Age والتخلُّف في الغرب الكاثوليكي في موازاة التنوير والنهضة في الشرقين الإسلامي والبيزنطي. وفرضيتنا أن العجز عن احتواء العامية، قد جر العجز المعرفي والتكنولوجي، الذي نزح مكرَهاً خارج لغة الضاد، ما رسّخ الاستعجام، وأورثنا وضع التخلُّف عن تلبية متطلبات القوة العصرية بإزاء الغرب. وهذا العجز ترتَّب على ما أعقب ظهور الإسلام من إضفاء القدسية على اللسان العربي لمجرَّد نزول الكلمة به، ما أعاقه عن منافسة خصميه العامية والاستعجام، على الرغم من حيويته وديناميته المشهودة. فسرعة انتشار الإسلام فوّتت على المجتمع العربي فرصة امتصاص الدفق الأعجمي الذي حملته الفتوح والدعوة، وحوَّلت العنصر العربي الى مجرد أقلية إتنية، عجزت عن ضبط التطورات بين جماعات الموالي والذميين وجموع الأقوام المستعربة الحديثة العهد بالإسلام. 2 - ومن نحو آخر حرص الحكام على سلامة اللسان العربي، لكونه حامل الإيديولوجية التي يرتكز اليها النظام. فلما آل الأمر الى الشعوبية والأعاجم، تهيَّب هؤلاء من المسِّ بلغة التنزيل. فانتقل موقع اللسان من هالة القداسة المتوهَّمة الى سجن التحنيط! على ما نلمسه في مقامات الحريري وناصيف اليازجي. 3 - وتمَّ تدوين الوحي حفظاً له من الاندثار. لكن الحرف العربي كان خلواً من الحركات والتنقيط، ما تسبب بإشكالات في أداء النصوص المدونة، كمثل قراءة "ورسوله" مجرورةً في قوله "إن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه"، ما أوجب الاعجام والحركات، وتأييد التحريك بتعليلات نظرية، تشكل منها النحو. وهكذا كان النحو أسبق علوم العربية الى الظهور، والدافع اليه دافعاً دينياً وايديولوجياً، لا دافع العلم المجرد، أو التعليم. لأن اكتساب العربية كان متيسراً بطريق السماع الحي والمباشر للدعوة الإسلامية، ومخالطة الأعراب. فلما غلبت العامية والعجمة على التخاطب، بات اكتساب العربية وفقاً على التعليم. ولأن العلوم العربية لم توضع أصلاً لأغراض التعليم، تعثر نفعُها لتعليم العربية، ما زاد في الهوة بين التدريس ولغة الحياة المشوبة بالفساد والعجمة. ما عرقل تطوُّر العربية كلغة، وأعاق مجاراتها لمتطلبات العصر، وزاد من التعويل على العاميات. ما أضفى عليها مزيداً من الشرعية. ومهد الطلاق مع الحياة اليومية الطريق الى الطلاق مع التقدم العام، الذي انتقلت رايته الى أوروبة الغربية الناشطة في التجديد والمغامرة من وراء ظهر الكنيسة ومحاكم التفتيش، وسائر الترسبات المعيقة للتقدم. ولن تستعيد العروبة ديناميتها، ما لم تحصر القدسية في القرآن وتسحب عن لغة الناس، ليستأنف اللسان العربي تجدده وتطوره الحر والبريء، بعيداً عن قدسية مقررة للدين وحده، وخارج شبهات الشعوبية والاستعمار، وفي منأى عن الخوف على الإسلام، بعد أن استتب له الأمر، واعتنقه نيف وألف مليون نسمة، فبات ممكناً معالجة أمر العربية لذاتها، ومن منظور علاقتها بالناس ودنياهم. ونحن نرى أن العروبة مأزومة لا مهزومة. لكن المحاولات الاستنقاذية التي بوشرت منذ قرنين جاءت غير مجدية، فلم تتجاوز حدود البيداغوجية. والبيداغوجية لا تكفي وحدها كي تجيّر للفصحى المكاسب التي تحققت للعامية خلال نيف وألف سنة، وكي تمد الجسور من جديد بين العروبة والحداثة، فيجاوز العرب، ومن خلفهم المسلمون، وضع الأمة المستهلكة والعاجزة عن الانتاج العصري والتنافسي، ويشقوا طريقهم للعيش في القرن 21. فإذا كانت الوسيلة متهرئة أو متخلّفة، فلا يغني عن اصلاحها أو استبدالها تجديد طرائق استخدامها. لذا لا محيد عن اعادة النظر في جدوى علوم العربية لاكتساب اللسان العربي، أي قيمتها بذاتها كعلوم، وقيمتها كوسائل مجدية للتدريس، في غياب السماع القويم والعفوي، والتعامل الحي بالفصيح. الحاجة الابستمولوجية لا مفرَّ لنا اذاً من ايستمولوجية ثورية، تمدنا بالجديد المتحقق في العالم المعاصر. وان كان ما أنتجه الأقدمون من علماء العربية عظيماً بحد ذاته، فهو قد بات متخلفاً نسبياً عن الركب بمقاييس زماننا. ناهيك أنه، لفرط تعظيم الأجداد له، وإصرارهم على رفض الحداثة، تحوّل الى عائقٍ عن التقدم. فقد جاء النحو منذ نشأته غريباً عن هموم المبتدئين في اكتساب العربية، منكراً عليهم صحةَ ما يسمعون ويقرأون، من كلام معاصر لهم، لمجرد انه لا ينتسب الى الحقبة الكلاسيكية، والى رقعة البادية مهد العروبة. ففي انعدام هذين الشرطين غلبةٌ، في زعم الأقدمين، للعجمة واللحن. لذا أدارت العامة ظهرها للفصيح، وعولت على المحكي، أو اعتمدت صراحةً ألسنة أعجمية خالصة، في ثأر شعوبي مكشوف. وتعثرت سياسات التعريب، سواء منها التلفيقي والحصري. لأن نقل الحداثة الى اللسان القومي تفرض تطويره وتهيئته لتبنيها، وإطلاق ديناميتها من داخل عبقريته الذاتية. ونحن إنما نسعى الى اعادة الاعتبار الى مشروعية الحياة العربية نفسها، التي لا تستقيم بغير الاستجابة لمتطلبات الحداثة، والمصالحة بين التجدد والتراث، بلوغاً الى تنمية مستدامة، تنبع من داخل الوجدان وتلتزم المستقبل، لا الماضي! لئلا تحال العربية، الى التقاعد في تضاعيف الفولكلور والعبادات، والخطابة في المناسبات، على نحو ما يحلم به المستعجمون. خريطة الانبعاث ويبدأ الانبعاث بمعالجة علوم اللسان انطلاقاً من المسلَّمات التالية: 1 - الكلام العربي "نثر وشعر وقرآن"، وفقاً لتعبير طه حسين. فإذا كان علينا أن نتعامل مع القرآن طبقاً للتقاليد والمسالك المتوارثة خلفاً عن سلف" فإن التعامل مع النثر والشعر العربيين يتطلب مجاوزة التقليد، لأن قطار الحياة لا يتوقف عند الطلول! 2 - ان اكتساب اللسان يمر حتماً بالنحو. وليس من يجهل ان التعليم الفعال يفترض حداً أدنى من السماع، وإن كان سماعاً مصطنعاً. ولكن لا بد من توظيف القواعد اللغوية في تفعيله. وهنا تبدأ المشكلة. أ - لأن علوم العربية لم توضع أصلاً لأغراض التعليم. ب - ولأن التقادم والتخلف يشوبها، فهي قائمة ومستكملة منذ نيف وألف سنة! 3 - ان علوم العربية تشكل تصورات الأقدمين. وليس ما يمنع زماننا من أن تكون له تصوراته: أ - فالثورة التكنولوجية أوجدت وسائل وأواليات وتقنيات لا سابق لها. فلم لا نجنِّدها في خدمة نهضتنا؟ ب - والانفتاح على اللغات لم يعرف مثله التاريخ قبلاً. وقد حققت علوم الألسنية انجازات عظيمة لا يجوز أن تحرم العربية في ايجابياتها، بذريعة أن السيبويهيين قطعوا مثل جهيزة قول كل خطيب! فخير الناس ذو مجد طريف أضاف لنفسه مجداً تليدا! ج - وفوق ذلك كله، ثمة حاجة في بيداغوجيتنا اللغوية الى نحو فعّال، ومعجم حديث ومشوِّق. ولما كان اللسان مفردات تضمها القواميس، وتراكيب يدرسها النحو، فسبيل التنمية يمر بمشروعين: - اعادة بناء القاموس العربي. - واعادة بناء النحو العربي. النحو الجديد - أول ما يقتضي الإصلاح هو إعادة تعريف الإعراب، الذي نراه مرادفاً للعروبة. والعروبة دينامية ناشطة، تترجم على السطح ترحلاً، أي تحركاً جغرافياً يستجيب لمتطلبات المناخ" كما تتجسد في العمق تحركاً موازياً إطاره الكلمة، للتعبير عن المكنونات، وهو ما يعرَف بالإعراب والعروبة، أو الإفصاح والفصاحة، التي ان بلغت المراد ولاءمت الحال القائم فعلاً، عُرفت بالبلاغة. لذا فالإعراب، مثله مثل الفصاحة والبلاغة، ليس نقيض البناء، كما يتداوله الترويج السيبويهي" ولا هو مجرد حركات أو سكنات تقتضيها المواقع المتبادلة للكلمات، لا ولا هو تعليل هذا التفاعل المزعوم بين العامل فعلاً كان أو شبه فعل وحرف معنى وبين المعمول اسماً أو فعلاً. بل هو تعبير عن المراد، يأتي على هيئة تغيير خارجي يقع على الكلمات، تحت تأثير هذا المراد أو المعنى والقصد نفسه" فقولك جاء زيدٌ قبل عمرو، يقصد تتابع المجيء" أما قولك: الحمد لله من قبلُ ومن بعدُ، ففي بناء "قبل" إضمار معنى آخر غير التتابع، هو معنى التأمل والاحتمالات غير المحدودة: قبل الصلاة، أو قبل الخليقة أو قبل تناول الطعام، أو قبل الشروع في السير، أو قبل هذا أو ذاك من الأمور والأشياء..." وظاهر ان قطع "قبل" عن الإضافة، المعبر عنه بالبناء على الضم، أدى معنى مختلفاً عن مجرد مدلول التعاقب المستخلص من اللفظة. وقل مثل ذلك عن الفرق بين قول الضرير: يا رجلاً خذ بيدي، وقولك لمن يجادلك: يا رجلُ هذا تكرار! لأنك هنا لا تخاطب "نكرة غير مقصودة"، بل تعبر عن قصد محدد بإغفالك اسم من تناديه، إما جهلاً به، أو تجاهلاً له ولغاية في نفسك. ففي الأمر قصدٌ أو "مرادٌ" ما، أعربت عنه هنا بالتوقيف، الذي يسمونه بناء، وهناك بالتحريك الذي يسمونه إعراباً. ثم إن هذا الإفصاح أو الاعراب قد يأتي تغييراً في داخل الكلم، وليس في آخره فقط، فقولك مثلاً: زيدٌ ينام، هو مجرد إخبار" أما قولك لزيد: نَمْ أو لا تنَمْ، فهو انشاءٌ لحدثٍ ما، عبرت عنه بتسكين الحرف الأخير فقط، بل أضفت اسقاط الألف من وسط الفعل نام. وإن إسقاط حرف العلة من الأجوف المجزوم ليس مجرد تحايل على التقاء الساكنين، وإلا فكيف يسوغ التقاؤهما في صيغة المفاعلة واسم الفاعل من المضاعف، ونحو ذلك المسارة، الخبر السار، المادة...؟ وفي عرفنا أن التغيير في بنية الكلم، أحرفاً وحركات، وفي داخل الكلمة أو في ظاهرها، وفي المفرد وفي التركيب الإسنادي... لا تعلله اعتبارات شكلية. ولا مفر من التعمق، بلوغاً الى المقاصد أي المراد. ومن هنا تسميتنا كلاً من النحو والقاموس اللذين نعدهما بالمراد! ومن نحو آخر نود اعادة الأمور الى نصابها لدى الحديث عن الزمن أو عن الابتداء ونحو ذلك. فالقول مثلاً بمبتدأ مؤخر لا معنى ولا فائدة منه في الدار أهلُها: أهلُها مبتدأ مؤخر!. ومن الأكثر صدقاً أن نعود الى مقولة الإسناد أو الإعماد. فكلمة أهل هي هنا سندٌ أو عمود ودعامة لتعبير في الدار، وهذا بدوره يحتاج الى ما يسنده. ففي المسألة ساند ومسنود، ولا داعي لمعزوفة المبتدأ والخبر السيبويهية! ثم انه لا يجوز تحميل صيغة الفعل معنى الزمان، لأن الزمان يستفاد من السياق قبل الصيغة: فالماضي اشارة الى المضاء السيف الماضي، لا الى المضي. لذا يستعمل المغاربة كلمة فارط بديلاً من الماضي! فقولك: زيدٌ ينام في سرير وثير، لا يفيد زماناً أو مكاناً محدداً، ولا تقريراً في أمر النوم المنسوب الى زيد. حتى إذا أردت ان تنفي عنه النوم قلت انه لا ينام، وبقي قولك مجرداً من الزمن الحاضر أو المقبل. ثم إنهم يتلهون بقولهم أن لفظ "ينام" فعلٌ مضارع، أي مشابه ومواز لإسم الفاعل. وأنت لا ترى شبهاً بينهما سوى تتابع الحركات والسكنات، أي الشكل أو اللفظ! ويتطوعون للزعم أنه مرفوع بسبب تجرده عن الناصب والجازم، وبصرف النظر عن الاعتمال الناشب في ذهنك ووجدانك! فإن قررت أن زيداً ما عرف النوم لسبب ما، فقلت انه لم ينم، مؤدياً بشأنه شهادة حازمة، زعموا ان الفعل ينام تعرّض للجزم، ليس بسبب اخبارك الحازم بما علمت من أمره، بل بسبب انتصاب الحرف "لم" أمامَه! ومع أن الجزم المنوه به إنما نجم عن مرادك التقريري، فقد أنسنوا الحرف النافي لم، ونسبوا له الحكم، فباتت له وظيفة الجزم، فضلاً عن النفي الأصلي. ثم ان المكابرة تحملهم على اضافة وظيفة ثالثة اليه، هي القلب، زعماً منهم أنه يقلب الفعل من معنى المضارعة، ويريدون به الحاضر والمستقبل معاً، الى معنى المضيِّ. وكل ذلك لكي يظلوا منطقيين مع أنفسهم، بعدما زعموا أن صيغة ينام تفيد أصلاً مضارعة اسم الفاعل بغير مدلول زمني، ثم توهموا أنها تشير الى زمنين حاضر ومستقبل، ولكنها الآن تفاجئهم بمعنى لا صلة له بكل ذلك، إذ ليس من تماثل في اللفظ أو الايقاع والشكل الخارجي، بين ينام ونائم، ليصح الكلام على المضارعة" وانعدام هذا التماثل ظاهر بين ينم في لم ينم ونائم!... ونحن إنما نود تحرير العقل العربي من تحايلات ومماحكات لا طائل تحتها: - نكتفي بالقول هنا ان الفعل ينام "مرشح للفعلية وحسب" فإذا أريد تكريسه في الفعلية صيغ للمضاء نام، أو للأمر نَمْ أو لا تنمْ، أو جيء اليه بنفي جازم. ولكنه قد ينزلق الى الإسمية، مروراً بالمصدرية، لمجرد أن يراد له ذلك من خلال الاستعانة بجسر العبور الى الاسمية "أن" زيدٌ يريد ان ينام = النوم. وما عدا ذلك ليس إلا ترفاً عقلياً ومضيعة للوقت والجهد المبذول للتدريس، بل تنفيراً لدارسي العربية! وعلى خلاف السيبويهية، نقول ان الكلام في أصله فعلٌ وحسب، لا فعلٌ واسم وحرف. وهو يرسخ في الفعلية، حين يتلقى الجزم أو الأمر أو المَضاء، لكنه قد يتدرج الى الاسمية مروراً بالمصدر. وفي هذا السياق يعود اللسان العربي الى أفق التوحيد الديني بإقرار أسبقية الفعل وحده، بما هو علة للمصدر، فيما يكون المصدر علة للإسم. ويتحرر العقل العربي من فرضية التثليث الأعجمية. حتى إذا ما ابتُذل كلٌّ من الفعل والمصدر والإسم، استحالت أحرفاً. وهذا ما يظهر جلياً في بعض الحالات ]مثل علا، على من علا الفعل بلوغاً الى على الحرف الجار، ومروراً بالعلو المصدري، فبالعلو أو العلاء والعلى الاسمي[، ولكنه يختفي في سواها لأن التدوين طمس ديناميته ومسلكه، حين فاجأ اللسان في إحدى مراحل ديناميته الشفوية فحبسه في الصيغ القائمة. ويكون الحبس "مؤبداً"، عندما يتوَّج التدوين بالتقديس. - وبعد، لماذا ينكرون على المصدر هويته القائمة بذاتها، فيلحقونه بالإسم، ثم لا يلبثون أن يصطدموا برفضه أواليات الجمع والتثنية والتأنيث والتصغير...، مثلما يرفضها الفعل فيستعان لبلوغها معه بالضمائر يصرّفونه معها؟ أما يثير حيرتهم ان المصدر لا يرتضي من صفات الإسم الا قابلية التنوين، والنسبة، والتعريف، دون التثنية والتأنيث والجمع والتصغير...، خلافاً للفعل! أليس من المنطق والعدل أن نسلم له بالاستقلال، سواء تجاه الفعل أو تجاه الإسم، فيصير الكلام عندئذ أربعة أقسام: الفعل فالمصدر فالإسم فالحرف، لا ثلاثة كما يتوهم السيبويهيون! بل لماذا يسمون المصدر مصدراً، باعتبار صدور الرسم عنه، لا صادراً باعتبار صدوره عن الفعل؟ وربما كان الأولى أن نبتعد عن مشتقات الصدور، فنسمي المصدر بهويته المستقلة، لا بتسلسل نسبه بين الفعل والده، وبين الإسم ولده الشرعي. فنقول: إنه الحدث أو الحدوث، انطلاقاً من قولهم بأنه "ما دلّ على حالةٍ أو حدث غير مقترن بزمان"، ومن زعمهم أن الفعل يقترن خلقةً، وبمجرد صياغته، بزمان معين، فيما الزمان يكتسب من السياق، لا من الصيغة. وعلى هذا "النحو المرادي"، يكون الفعل استحداثاً أو إحداثاً، والمصدر حدثاً والإسم هو الحادث أو ناتج الحدوث. أما الحرف فيكون ما ابتذل من الفعل والمصدر والإسم، ففقد كل قيمة كانت له بذاته وأضحت قيمته مرتبطة بغيره، من اسم أو فعل أو مصدر. وأخيراً لا آخراً، نراهم يصفون الفعل ينام والاسم زيدٌ بأنهما في حالة رفع، ثم يربطون الرفع بالضم الظاهر على آخر كل منهما، ويغفلون الربط بين الرفع النحوي والرفع الهندسي أو الاجتماعي أو القيمي. ونحن نودُّ التنبيه الى المراد القيمي أو المكاني من الرفع المقرر، فنقول ان الفعل أو الإسم المرفوعين هما في وضع الاحتياط والحرص. حتى اذا احتيج الى استخدام الفعل أو الإسم فتحاً ونصباً، على نحو ما تفتح الخيمة أو الثياب والأطعمة، وتنصب، لقضاء الحاجة الواقعة" فإذا ما انقضت الحاجة، تعرضت الخيمة والثياب وفضلات الطعام للضم اللف والستر...، ثم للرفع والإبعاد عن المتناول بعد الاستعمال الطارىء. حتى اذا ابتذلت الخيمة أو الثياب وتهرأت فباتت خلَقاً، وصار ما تبقى من الطعام غير ذي قيمة، خفضنا ذلك كله، وجررناه الى المزابل، بعد أن نكسره كلما اقتضى الأمر! تلك هي إذن حكاية أقسام الكلمة!... * باحث لبناني