عندما تتعقد الأمور وتتأزم الأحوال وتنعدم الحلول: سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، أخلاقياً، وثقافياً... تعمد «الجمهرة» الكبيرة من شعبنا إلى تناسي وإغفال بؤس «الحاضر» وذلك بنيّة وهدف الرجوع إلى الوراء لاستحضار «الماضي»، واختيار بعض لحظاته أو أيامه الجميلة بواسطة أحلام اليقظة وخداع الذات، والترديد المستمر والتكرار الروتيني لعبارة: «سقى الله أيام زمان»! وترتكز الرومانسية المرعبة على امتداد أفقها «البكّاء» على أن «الماضي» -فقط- هو الجيد والجميل، وأن «الحاضر» هو الرديء والدميم. وكان الذهاب العربي اليومي إلى «الماضي» ولايزال من العناوين الإستراتيجية الكبيرة لمسيرة الأمة. وربما لهذا استعمل العرب وبكثافة في الكتابة وإبداء الرأي وشرح الأفكار والمفاوضات، صيغة «الفعل الماضي»! حتى لكأن أفعال «الحاضر والمضارع والمستقبل» غير موجودة في اللغة العربية. وهكذا فإن تعاقب الخيبات، وسقوط المبادرات وكبت الحريات وإدمان الجميع على التنازلات، قد أدّى بنا إلى «الحنين» الجارف للالتحاق بفردوس مفقود، وأصابنا بحريق «النوستالجيا» المبنيّة على «انتظار» الذي لن يأتي! ومنذ سقوط الدولة العباسية وانهيار مجد الأندلس، ونحن نمرّ بكل أشكال الخيانات والصفقات، والنكسات، وما سعير واشتعال النار في فلسطين، والجراح المفتوحة في العراق ولبنان واليمن والسودان... المتزامنة مع سطوع إبداعات «الستار أكاديمي وسوبر ستار» وسائر السوبرماركت، إلا نتيجة «الغياب» المدوّي ل»الحاضر» والحضور الصارخ ل»الماضي»! وانطلاقاً من هذا الشتات والتشتت والضياع، امتشقنا السيوف في عصر تقنية «الذرة»! ومارسنا الطغيان في زمن الديمقراطية! وسفَّهنا معتقداتنا وغلفناها ب»ظلامية» حالكة متنوعة في أزمة «التنوير»! وتأسيساً على هذا النهج «الماضوي» سعينا ومازلنا نسعى إلى طرح أسماء وعناوين وتسميات نابعة من هروبنا المستمر من «الزمن» المعاصر، ومتسربلةً بثوب متحفيّ سلفي قديم ليتناسب مع كل تجليات وصيغ «الأفعال الماضية». وإيماناً منا بصوابية الخطاب العربي المبتدئ بجملة «كان يا ما كان... في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان»... فإننا نرى أمامنا مجموعة من المطاعم الحديثة «الموجودة والمعروفة»، بأسماء مسحورة ببريق الماضي، منها مثلاً: مطعم «أيام زمان»، مطعم «الخوابي»، مطعم «الأطلال»، مطعم «الطربوش»، مطعم «لقمة ستي»، مطعم «الضيعة»، مطعم «خان المير»، مطعم «الجسر العتيق»، مطعم «جدودنا»...!وتماهياً مع فكرنا المتناقض مع «الواقع» فقد أطلقنا اسم «الشلال» على متنزه في الصحراء! حيث لا ماء ولا من يشربون أو يحزنون! وأطلقنا اسم «صحارى» على مطعم أو فندق على شاطئ البحر! حتى لكأننا بهذه الصيغ والتسميات نحاول استعادة المطارح ونقلها إلى حيث نحلم. بمعنى آخر، إننا وعلى الدوام نجهد ونتمنى أن ننقل «الماضي»، ليكون معنا في حلّنا وترحالنا، وأن يصبح «الحاضر» بكل تفاصيله «ماضياً» تأنس به الروح ويرتاح معه الفؤاد!... وبذلك نخلص ونتخلص من كل مشكلات وأزمات وإرباكات وهزائم الواقع! «الحاضر»! ولكن أدهى ما أخشاه اليوم هو أن تؤدي «لوثة» الحلم ب»الماضي» إلى السعي الحثيث وبذل الجهد في سبيل الوصول إلى بناء «مجتمع سابق»!ساعتئذٍ: ومع «أسمهان» سنغني جميعاً: يا حبيبي تعالَ الحقني، وشوف اللي جرالي...!