قالت خالتي: صعد الجثام من هذه النافذة, كانت تشير بإبهامها نحو فتحة صغيرة في الجانب الشرقي من المنزل. وقتها لم أستطع أن أحدد شكلاً للجثام إلا أن أول ما تبادر إلى ذهني شكل القطة ذات المخالب الحادة, سرعان ما تلاشت الصورة فلو كان الجثام كالقطة لما أصاب خالتي الرعب, إذ أدرك وقتها هروب القطة حين ترفع خالتي عصاها الغليظة لتطردها خصوصاً عندما تود أن تقترب من فتات الخبز الذي تحتفظ به في قفة اعتادت وضعها خلف سريرها الخشبي. قلت: ربما يكون حجمه كالجمل! نظرت إلىّ وصمتت, الصورة التي التمعت في ذهني تلاشت مباشرة، إذ إن الجمل لا يمكن بحجمه الضخم أن ينفذ من النافذة الخشبية الصغيرة! عندها دققت النظر في وجه خالتي الذي كان في تصوري أكبر حجماً من المعتاد. وقتها كانت تتحدث بصوت خافت وكأن الجثام أمامها, تارة كنت أنظر لخالتي وأخرى ألمح النافذة فيما تركز نظري في سقف المنزل الذي اصطبغ بالحمم السوداء. ملامح وجه خالتي كانت واضحة تماماً, تغطي رأسها بشرشف أبيض وقد ملأت جسدها بثوب يحمل باقات من الأزهار الصّفر وكأنها ترفل في خميلة خضراء زاهية. وقت التزام خالتي بالصمت المريب وضعت تخميناً سريعاً بأن الجثام كالهواء؛ فهو يصعد ويتسرّب دون قيود من النوافذ المعلقة في هامات المنازل, إلا أن الهواء لا يمكن أن يشكّل رعباً مخيفاً لخالتي.. فالكلمات التي كانت تلوكها تبيّن أن ثمة خوفاً اعتراها, بل وصفت ثقله الهائل على صدرها مما منعها من الصراخ أو حتى التنفس. أما الهواء فأنا أعرف أنه وديع ينساب من النوافذ دون إحداث شيء مزعج, قلت في نفسي: ليكن الجثام من يكن, المهم أنه جثم على صدر خالتي وأرعبها. قلت: خالتي صفي لي شكل الجثام؟ قالت: يا ابن أختي لا أعرف! اندهشت من غموض هذا الكائن! وأيضاً من عدم تمكّنها من وصف شكله علماً بأنها تعرف سكان قريتنا فرداً فرداًً. قلت: حينما شاهدتِهِ بعينيك وهو يصعد من نافذة منزلك. ردت بشكل سريع: أنا؟! لم أره.. عندها تشكَّل في ذهني صور متنوعة ومتناقضة و ضبابية باعتباره مخلوقاً شفافاً ... أصررت أن تعطي شكلاً معيناًً. قالت: كالجان.. شعرت وكأن أشواك مدببة تضغط على جسدي.. تقرفصت واقتربت من خالتي ودققت النظر في النافذة الشرقية وأردفت خالتي بكلمات: كالجان.. كالجان.. لم أشعر بدفء المكان. وقفت خالتي بجسدها الممتلئ وتحركت ببطء نحو غرفة داخلية مقفلة من جميع جوانبها.. أثناء سيرها قالت: لتنم.. لتنم.. فجأة انشقت النافذة ليدخل كائن هلامي يصدر من فمه فحيح امتزج مع فحيح كان ينبعث من رقبة صغيرة لطفل توه استيقظ ليشاهد أمامه فم عجوز كانت تثرثر لتقول: من هنا صعد الجثام, من هنا, وتشير بسبابة يدها اليمنى نحو النافذة المشرعة. ** **